newsأسرار المدن

السير في طريق الدولة المستحيلة

ماهر اسبر الثلاثاء 2025/04/29
GettyImages-2196436670.jpg
السوريون دعموا السلطة المؤقتة ظنا منهم أنها تمثل انتصاراً للثورة (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر
السلطة الجديدة في سوريا لم تأتِ كنتاج عملية سياسية تشاركية، بل نتاج تعاقد ضمني بين رأس الجماعة المتغلّبة (الرئيس أحمد الشرع) وبين قوى أمر واقع عسكرية ودينية. أي أننا بإزاء تحالف بين زعامة فردية كاريزمية وبين شبكات من الجماعات السلفية الجهادية والمجموعات التي كان عناصرها يسرحون ويمرحون على الأرض خلال الحرب. هذا التعاقد يقوم على مقايضة واضحة: يعطي الشرع تلك الجماعات حصة في السلطة والامتيازات وربما يغض الطرف عن أيديولوجيتها المتشددة في مناطق نفوذها، مقابل أن تعطيه هي البيعة والولاء كرئيس وواجهة للدولة. إنها صيغة تشبه إلى حد بعيد صيغة "رئيس متحكم + ميليشيات فعلية" التي رأيناها في بلدان أخرى. في العراق مثلاً بعد 2003، تكوّن نوع من التحالف بين رؤساء وزراء كالمالكي قائد أكبر ميليشيا وأكثرها تطرفاً وميليشيات طائفية قوية تعمل كدولة ظل. لكن الشبيه الأقرب هنا هو النموذج الإيراني بعد ثورة 1979: حيث توجد مؤسسات جمهورية منتخبة شكلياً (رئيس، برلمان، حكومة) لكنها خاضعة فعلياً لسلطة المرشد وتحالف الحرس الثوري والمؤسسة الدينية. هناك دولة عميقة ثيوقراطية تحكم من وراء الستار، بينما واجهات الدولة الحديثة مجرد ديكور بيروقراطي. وإذا كان النموذج الإيراني يمثل الدولة الثيوقراطية الصلبة، فإن النموذج العراقي يمثل الدولة الهشة المفككة؛ وكلاهما يلوح كشبح في الأفق السوري. إن السلطة الطائفية التحالفية في دمشق اليوم تنذر بأن تجمع أسوأ ما في التجربتين: قبضة أيديولوجية حديدية من جهة، وعجزاً بنيوياً عن بناء مؤسسات وطنية فعالة من جهة أخرى. كما أنه في الحالة السورية الناشئة، لعبت هيئة تحرير الشام والجماعات المماثلة دور "الحرس الثوري" المحلي الذي يمتلك القوة على الأرض. فبعد سقوط النظام، أُعلن عن حكومة مؤقتة ومؤتمر حوار وطني شكلي ودستور مؤقت، لكنها هياكل هشة ليس لديها ما تستند إليه سوى شرعية الأمر الواقع التي يمسك بتلابيبها الرجال المسلحون في الميدان.
هكذا تكرّس عقد غير مكتوب بين رئيس السلطة وأمراء الحرب "التائبين" والجهاديين: الرئيس يوفر غطاء الشرعية الدولية والتعامل الخارجي –قدّم نفسه كواجهة مقبولة نوعًا ما عبر تخليه عن الاسم الجهادي والانفتاح– وأمراء الحرب يوفرون السيطرة الميدانية والقوة الضاربة وكل أدوات الترهيب المطلوبة لضبط المجتمع. أما التيار الديني السلفي فقد نال حصته أيضاً في هذا العقد: أصبح هناك مجلس شورى شرعي يضم مشايخ مؤيدين للمنهج الجديد، يقوم هؤلاء بإصدار الفتاوى الداعمة للسلطة وتسويغ قراراتها دينياً، مقابل امتيازات ونفوذ ضمن المؤسسات الدينية والقضائية. بكلمات أخرى، إنها إقامة لنموذج "ولاية فقيه سنيّة" إن صح التعبير، حيث يوجد مرجع ديني جماعي يبارك ويوجه، وإن لم يكن متسيداً رمزياً كالمرشد الإيراني. وبين هؤلاء جميعاً شبكة مصالح اقتصادية بدأت تتكوّن من غنائم الحرب: عقارات وأراضٍ، وشركات توليد كهرباء واتصالات بديلة، ومعابر تجارة مع الدول المجاورة، كلها صارت في أيدي متنفذين جدد يحمون بعضهم بعضًا.
نظام أكثر انغلاقاً من البعث
لقد كان نظام البعث، رغم استبداده الشمولي، يُقدّم نفسه كنظام قومي علماني يعتمد على حزب واحد وقائد أوحد، ويتلاعب بورقة الطائفية حسب مقتضيات مصلحته. ففي خطابه الرسمي، كان يروّج لشعارات الوطنية والعلمانية والوحدة، وإنْ كانت في كثير من الأحيان مجرّد واجهات خطابية. أما النظام الجديد المنبثق من رحم الحرب، فيُعد أكثر انغلاقاً وخطورة من سلفه؛ لأنه لا يدّعي حتى تلك الشعارات الجامعة، بل يستند صراحة إلى سردية تفوّق فئة "مؤمنة" على أخرى "ضالة" أو "خائنة". وهو بذلك يُقسّم المجتمع ضمنيًا إلى معسكرين لا ثالث لهما: أهل الحق وأهل الباطل. وفي مثل هذا التصنيف القطبي، تتلاشى مساحة الحياد أو الاختلاف المشروع. فحين يدّعي الحاكم أنه يحكم باسم الله، وأنه يستمد شرعيته من الأغلبية المذهبية، فإن أي معارضة له تُعد معارضة للدين ذاته، ويُغلق بذلك الباب أمام التظلّم والاختلاف المشروع.
والمفارقة الكبرى أن قطاعاً من السوريين الذين دعموا هذه السلطة المؤقتة فعلوا ذلك وهم يظنون أنها تمثل انتصاراً للثورة. ثار الناس بحثاً عن الحرية والعدالة والمواطنة، لا ليجدوا أنفسهم في نظام ثيوقراطي. فالنظام الجديد، على خلاف البعث، لا يدّعي حتى العلمانية الشكلية أو احترام التنوع الثقافي، بل بدأ بالفعل بفرض أنماط صارمة من السلوك العام. فمن تقييد لباس النساء تحت شعار "الاحتشام"، إلى تعديل المناهج الدراسية لتتماشى مع التفسير الديني الرسمي، وصولاً إلى رقابة خانقة على الانترنت والإعلام بدعوى "مكافحة النسوية، أو مواجهة مؤامرات الفلول، أو عملاء الغرب العلماني"، تتكشّف تدريجياً طبيعة نظام لا يحتمل التعدد حتى في الشؤون الاجتماعية اليومية.
ومن منظور علم النفس السياسي، كلّما زاد القمع العقدي، ارتفعت معدلات النفاق الاجتماعي، واضطر الناس إلى ممارسة التقية والمداهنة، فانهارت الثقة بين الحاكم والمحكوم. يُخلق بذلك مجتمع مشوّه، يخاف فيه أفراده من التعبير الصادق، ويعجز فيه أي رأي حر عن الوصول إلى العلن، فيتحول القمع إلى بنية نفسية تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، وتجعل من الصمت واجباً اجتماعياً لا تعبيراً عن الرضا، بل عن العجز والخوف.
لكن السؤال الأهم: هل يمكن لمثل هذا البناء الهش أن يدوم؟ تشير كل القراءات التاريخية إلى النفي. الاستبداد المؤسس على الشرعية الدينية قد ينجح مرحلياً في ضبط الناس بالخوف والقداسة، لكنه يحمل في طياته بذور انفجاره الذاتي. فاحتكار الحقيقة والثروة والقوة بيد فئة محدودة يؤدي حتماً إلى تصدعات داخلية بين أجنحة الحكم نفسها. وسنرى، كما بدأت بوادره، تنازعاً بين الجناح العسكري والجناح "الشرعي" حول من له الكلمة العليا، وقد تظهر خلافات بين القادة الميدانيين، ممن يرون أنفسهم أصحاب الفضل في النصر، وبين الطبقة الشرعية التي تنال امتيازات من دون مشاركة في القتال.
وقد بدأت بالفعل تسريبات تلوح بتململ بعض القادة العسكريين الذين يشعرون بأنهم دفعوا الثمن الأكبر، فيما يحصد "الشرعيون" النفوذ والمناصب. هذا التوتر قد يتطور إلى تصفيات أو انشقاقات كما جرى في مراحل لاحقة من الثورات الأخرى حين تأكل نخبها نفسها. ومع الوقت، سيفقد النظام الحالي تماسكه ما إن تظهر أولى ملامح التمرّد الداخلي، خصوصاً مع استمرار التردي الاقتصادي وفقدان الأمل الشعبي.
النخب الصامتة والإقصاء الناعم
قد يتساءل البعض: أين هي النخب والمثقفون والعقلاء إزاء ما يحدث؟ ألم يعارضوا هذا المنحى الخطير؟ الواقع أن كثيراً منهم وقعوا في الفخ أو آثروا السلامة. بعض النخب الدينية التي كانت معارضة لنظام الأسد وجدت نفسها تلقائياً في صف النظام الجديد، إما طمعاً بالنفوذ أو اقتناعاً بأنه "أهون الشرين" لأنه على الأقل إسلامي ظاهرياً. هذه النخب لعبت دوراً خطيراً في إضفاء شرعية فكرية على هيمنة العقل الطائفي. لم تظهر عندنا –للأسف– معارضة فكرية قوية من داخل الصف الإسلامي ضد تجاوزات السلطويين الجدد. بل بالعكس، صار أي منتقد يُنبَذ فوراً ويُتهم بأنه ضد الدين أو انهزامي أو خائن للثورة. هكذا مورس إقصاء ناعم لكنه فعّال: كل من يخرج عن الخط المرسوم يُشيطن بأسلوب ممنهج في الإعلام ومنابر المساجد ومنشورات التواصل الاجتماعي التابعة للمنظومة. ربما لا يُعتقل هذا المنتقد أو يُقتل (كي لا يظهر النظام بمظهر المستبد كما كان يفعل الأسد)، لكن يتم اغتياله معنوياً: تهم جاهزة بالتشويه والتخوين والتكفير تطارده حتى يصمت أو يغادر البلد إن استطاع.
لقد انقسمت النخب السورية حيال هذا الواقع. بعضهم لاذ بالصمت الكلي وكأنه فقد الأمل بأي دور له. وبعضهم انضم للبوق الإعلامي للنظام الجديد، يلمّع صورته بحجة "درء الخطر الخارجي" أو "حماية الثورة من أعدائها الداخليين". وهناك قلة صرخت محذرة من هذا المنزلق، لكنها كانت صرخات في وادٍ. لا يمكن إنكار أن الخوف لا يزال حاضراً بقوة: فالاغتيالات الغامضة طالت بالفعل شخصيات معارضة لهذا النهج في الشمال سابقاً، وحتى في المنفى هناك حملات ترهيب إلكتروني وتشويه سُمعة بحق كل من ينتقد الشرع أو جماعته. وبالتالي نجح النظام الطائفي في تطويع جزء كبير من النخبة أو تحييدها.
من المهم هنا توضيح أننا لا نرى هذا المشهد القاتم حتمياً لا فكاك منه؛ هو محاولة لفهم كيف وصلنا إلى حافة الدولة المستحيلة. الطريق الذي سلكناه مليء بالأخطاء والتضحيات المهدورة، وحان الوقت لوقفة صادقة مع النفس. العقل الطائفي كان ملجأً سهلاً للكثيرين في مواجهة الخوف والضياع، لكنه ملجأ من ورق تنهار جدرانه عند أول اختبار جدي لبناء مستقبل مستقر. لا يمكن لدولة أن تقوم على انعدام الثقة بين مواطنيها، ولا يمكن لحاكم أن يستمر إلى ما لا نهاية مستنداً فقط إلى عصبيته وأيدولوجيته في تغييب الناس. يدرك علماء الاجتماع أن المجتمعات التي تتأسس سلطتها على الهويات الضيقة تعيش في توتر دائم وتقع فريسة دورات من العنف والانقسام. وقد علّمنا تاريخ المشرق كله أن الطائفية السياسية طريق مسدود؛ جربه اللبنانيون قبلنا فدخلوا حرباً أهلية طويلة ثم خرجوا إلى صيغة حكم هشة، وجرّبه العراقيون فغرقوا في دوامة العنف المذهبي سنوات، وحتى إيران التي يحكمها نظام ولاية الفقيه الشيعي تقف اليوم على صفيح ساخن من الاعتراضات الشعبية المتنامية من كل الاتجاهات.
علماً أنّني حاولت التركيز هنا على العامل الداخلي السوري، مع ترك بحث تأثير العوامل الدولية والإقليمية إلى وقت آخر، إلا أنّني مقتنع بأن معضلة "الدولة المستحيلة" في سوريا نابعة من اختلالات داخلية يتحمل السوريون أنفسهم مسؤولية تصحيحها قبل أي طرف آخر في العالم؛ إذ إن هيمنة العقلية الطائفية الإقصائية، وانهيار الثقة بين الجماعات الدينية والطائفية والإثنية وحتى الجهوية، واستمرار دوامة العنف، كلها منبعها الأساسي هو الداخل السوري وتاريخ السوريين وسردياتهم عن بعضهم أولاً، وعن الآخرين ثانياً، وهو ما يجب العمل على تصحيحه.
في النهاية، قد يكون الطريق إلى الدولة المستحيلة درساً قاسياً لنا جميعاً، لكنه ليس قدراً لا يُردّ. الطريق الآخر –طريق الدولة الممكنة– يبدأ عندما ندرك جميعاً خطورة هذا العقل الطائفي ونواجهه بالوعي والمعرفة. وحين نعيد الاعتبار لمنطق المواطنة الجامعة الذي همّشه المتعصّبون من كل الأطراف، سنكون قد وضعنا أول حجر في بناء دولة سورية جديدة على أسس صلبة. ربما يبدو هذا الكلام حالماً في لحظة يغلب عليها الواقعيون الجدد بالسلاح والمال، لكن كل بناء فكري أو سياسي يبدأ بحلم يتجرأ أصحابه على النطق بالحقيقة. وحقيقتنا التي يجب أن نعترف بها: لن يكون هناك وطن لأحد إن لم يكن وطناً للجميع. وإن استمرار الحال على ما هو عليه يعني أننا نؤجل الانفجار فحسب. الدولة المستحيلة ليست فرضية نظرية بعد الآن، إنها واقع يتشكل أمامنا؛ وما لم ننتقل من دائرة الاستحالة هذه إلى دائرة الممكن، سنظل ندور في حلقة مفرغة من سلطانات متعاقبة، وسيبقى الشعب وقوداً في محرقة صراع الهويات الكاذبة.

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث