حجم الخط
مشاركة عبر
طغت على المشهد السياسي والحزبي الإسرائيلي، طوال العام المنصرم 2024 وحتى لحظة كتابة هذه السطور (أواخر آذار/ مارس 2025)، تداعيات الحرب على قطاع غزة وفي جبهات أخرى، ولا سيما عدم مقدرة حسم الحرب باعتبار أن الحسم كان هدف الحكومة الإسرائيلية النهائي منها، مثلما ظلت تؤكد، والأهم من ذلك فشل الحكومة في استعادة جميع المختطفين الإسرائيليين المحتجزين في القطاع من خلال الضغط العسكري.
وما ميّز المشهد على نحو خاص أنه كانت هناك مواقف انتقادية للحكومة من طرف أحزاب المعارضة، ولكنها ركزت بالأساس على الفشل في استعادة المختطفين وليس على مناهضة الحرب، ولا حتى على وجوب المضي قدماً نحو تسوية القضية الفلسطينية، ووضع حد للاحتلال في أراضي 1967.
تنشر "المدن" الحلقة الثانية من هذه الدراسة للباحث أنطوان شلحت بشأن المشهد الإسرائيلي خلال العام المنصرم. وقد تناولت الحلقة الأولى، الاستقرار النسبي لحكومة اليمين المتطرف في إسرائيل.
بينما يهيمن النقاش الأمني والعسكري على الحوار العام في إسرائيل، تتقدم حكومة الائتلاف اليميني بخطتها للإصلاحات القضائية التي أُعلنت في بداية العام 2023، إلا أن تنفيذها في العام 2024 يتم بشكل غير معلن ولكن واضح. شملت مبادرات "الإصلاح" الحاضرة على أجندة الحكومة الإسرائيلية إقالة رئيس الشاباك (وفي الخلفية محاولات لتعزيز سيطرة السلطة التنفيذية على عمل الأجهزة الأمنية)، ومساعي لإقالة المدعي العام (وفي الخلفية مساعي لخلخلة الفصل بين السلطات وتعزيز سطوة الحكومة "المنتخبة")، وإعادة هيكلة لجنة اختيار القضاة (وفي الخلفية مساعي لجعل المحكمة العليا أكثر محافظة وتقليل تدخلها في عمل الحكومة).
هذه التغيرات ستكون لها تداعيات مهمة في مستقبل المشهد السياسي- الحزبي في إسرائيل، اذ تظهر التقارير أن نسبة المشاركة السياسية في إسرائيل خلال 2024 وصلت إلى 94.4٪ (وهي واحدة من أعلى الدرجات العالمية)، مما يشير إلى أن انخراط المواطنين الإسرائيليين في الحقل السياسي لا يقتصر على التصويت، بل هناك مشاركة فاعلة في العمليات السياسية والمجتمعية. بينما أظهر المجتمع الإسرائيلي استقراراً نسبياً في مواقفه السياسية، مع بقاء نسبة كبيرة من السكان على نفس الاتجاهات السياسية (يمين، وسط، ويسار) كما كانت قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، إلا أن الانتقال التدريجي من "ديمقراطية ليبرالية" إلى "ديمقراطية انتخابية"، كما يصفها معهد الديمقراطية الإسرائيلي، قد يهدد بنقل الصراعات السياسية داخل إسرائيل، في ظل نسبة المشاركة السياسية العالية، الى شفا "حرب أهلية"، كما عبر عن ذلك رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك.
نظام استبدادي
تشكل "محاربة النخب" جزءاً من سياسات نتنياهو التي بدأ بها من خلال برنامج "الإصلاح القضائي". ويصف رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" ألوف بن سياسات نتنياهو بأنها تهدف الى "إقامة نظام استبدادي من دون كوابح، ولا ضوابط". وتستلهم سياسة نتنياهو الخارجية من نظريات القوة: تدمير قطاع غزة وترحيل سكانه، والضم والنهب في الضفة الغربية، واحتلال منطقة نفوذ في سوريا. وبرأي بن، يصوغ نتنياهو على طريقته الشرق الأوسط من جديد، بشكل محميات إسرائيلية. وفي مواجهة خطط كبيرة كهذه، لا تعدو معاناة المختطفين في غزة وعائلاتهم كونها ضجيجاً خلفياً في أذني رئيس الحكومة. ومن أجل تحقيق رؤيته يغدق نتنياهو جبالاً من الإطراء على ترامب، في مقابل الحصول على حمايته، ولا ينسى تقبيل يدي المستبد الثاني فلاديمير بوتين. بالنسبة إلى نتنياهو، فإن أفكاراً، مثل الحرية والعدالة والسلام، هي للخاسرين من أمثال الفلسطينيين والسوريين والرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي. العصر الآن، هو عصر القوة، ونتنياهو هو نبيّها المحلي.
في إطار استراتيجيته يقوم نتنياهو بالهجوم على رؤساء المؤسسة الأمنية، وقام بإطاحة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) رونين بار، وأعلن نيته إطاحة المستشارة القانونية للحكومة الإسرائيلية غالي بهراف-ميارا، وغيرهما. وبالنسبة إليه فإن رؤساء المؤسسة الأمنية هم المسؤولون عن العقيدة الأمنية التي أدت إلى هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، بينما هو لا يتحمل حتى ذرة من المسؤولية عن الإخفاق الذي وقع معظمه خلال أعوام حكمه الطويلة. وبموجب ما يروج له، "فلقد أخفوا عنه، وضللوه، وهو الشخص الوحيد الذي يعرف بالضبط ما يجب فعله، لكنه لم يشعر بأي شيء".
نتنياهو يحتكر السلطة
وأعادت خطوة نتنياهو إقالة رئيس جهاز الشاباك رونين بار إلى الأذهان قيام رئيس الحكومة بإقالة وزير الأمن يوآف غالانت يوم 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. وفي حينه ذهب كثيرون إلى أن النتيجة الفورية والأهم لإقالة غالانت هي أن بنيامين نتنياهو لم يعد فقط رئيس الحكومة، بل أصبح هو أيضاً وزير الأمن. وفي الواقع، منذ تلك الإقالة بات نتنياهو صاحب الكلمة الفصل في مسائل الدفاع التكتيكية والنظامية والاستراتيجية. صحيح أن يسرائيل كاتس تم تعيينه محل غالانت لكنه لا يشكل سلطة أمنية أمام مَن هم فوقه، أي نتنياهو، ولا أمام مرؤوسيه، أي كبار ضباط الجيش الإسرائيلي والجيش بأكمله. وبموجب ما أكد أحد أبرز المحللين العسكريين، يمكن من خلال ملاحظة سلوك كاتس السياسي أن نفهم أن دوره لن يعدو كونه منفّذاً لأوامر نتنياهو، وأنه لن يؤدي أكثر من دور مشرف ينوب عنه في متابعة المنظومة الأمنية، خصوصاً كبار قادتها وهم رئيس هيئة الأركان (السابق) هرتسي هليفي، ورئيس الشاباك رونين بار، ورئيس الموساد ديفيد برنياع، الذين لا يتفقون دائماً مع نتنياهو، خصوصاً في القضايا المتعلقة بالمختطفين وإدارة الحرب في قطاع غزة.
في واقع الأمر فإنه منذ إقالة غالانت والتي أعقبها خطاب له موجّه إلى الرأي العام، أشير في سياق تحليلات كثيرة إلى أن الخلافات التي اندلعت بينه وبين رئيس الحكومة نتنياهو تحدّد (من الحدّة) وجهة هذا الأخير المستمرة حتى الآن والتي يبدو أنها ستستمر حتى إشعار آخر. ووفقاً لأحد هذه التحليلات، كان غالانت في خطابه واضحاً أمام الجمهور، فهناك عدة خلافات أساسية بينه وبين نتنياهو، المشترك بينها واضح كالشمس: غالانت يدافع عن مصالح وطنية، بينما يدافع نتنياهو عن مصالح شخصية. وغالانت يوجّه التحية إلى الذين يخدمون في الجيش، بيمنا يدافع نتنياهو عن المتهربين من الخدمة العسكرية (اليهود الحريديم). وغالانت مصرّ على إعادة المختطفين، بينما يتخلى نتنياهو عنهم من أجل الاستمرار في حرب لا نهاية لها في غزة. وغالانت يقاتل من أجل تشكيل لجنة تحقيق رسمية وتقصّي الحقيقة، بينما نتنياهو مشغول بطمسها. والنتيجة "لم تكن الصورة حادة إلى هذه الدرجة من ذي قبل، فالدولة تناضل من أجل مستقبل وجودها، ونتنياهو يقاتل من أجل بقائه رئيساً للحكومة".
قبل إقالة غالانت، أعلن الوزيران في "كابينت الحرب" الإسرائيلي بيني غانتس وغادي أيزنكوت يوم 9/6/2024، استقالتهما من حكومة الطوارئ الإسرائيلية التي أقيمت بعد اندلاع الحرب على غزة. لعلّ الأمر الأهم في هذه الخطوة هو ما كشف عنه غانتس، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده لإعلان استقالته، بشأن أداء رئيس الحكومة، الذي وجّه إليه اتهامات كثيرة أبرزها ما يلي: الحؤول دون تحقيق ما وصفه بأنه "نصر حقيقي"، وإطلاق "وعود جوفاء"، واتخاذ "قرارات استراتيجية ومصيرية في الحكومة بناءً على اعتبارات سياسية". ومما قاله غانتس بهذا الصدد: "هناك قرارات استراتيجية مصيرية تُقابل بالتردّد والمماطلة لاعتبارات سياسية، ونتنياهو يمنعنا من التقدّم نحو نصر حقيقي. ولذا فإننا نترك حكومة الطوارئ اليوم بشعور شديد الوطأة، ولكن بقلب متصالح مع نفسه".
وهنا لا بُدّ من أن نشير إلى ما يلي:
أولاً، فيما يتعلق بالحرب على قطاع غزة لم يظهر أن هناك خلافات جوهرية حول أهدافها، وهي بحسب ما يكرّرها نتنياهو وغانتس وغيرهما من قادة الحكومة: تدمير حماس، وإطلاق الأسرى والمختطفين الإسرائيليين، وضمان ألا يشكّل قطاع غزة تهديداً أمنيّاً لإسرائيل في المستقبل. ومع ذلك هناك خلاف على كيفية تحقيق هذه الأهداف. وهي أهداف لا تنفك الولايات المتحدة أيضاً تعلن تأييدها لها، وإن أبدت تحفظات على وسائل تحقيقها ولا سيما تلك التي تلحق أضراراً بالسكان المدنيين، ولا تتيح إمكان إيصال المساعدات الإنسانية المطلوبة.
ثانياً، هناك مسألة برزت بالتزامن مع إصرار نتنياهو على توسيع المعارك العسكرية في منطقة رفح في جنوب قطاع غزة، وهي مسألة التشديد على أن وعود رئيس الحكومة بشأن تحقيق نصر مطلق وسريع في القطاع تصبح جوفاء أكثر فأكثر. ولعلّ أبرز من تبنى هذا التشديد محللو الشؤون العسكرية في وسائل الإعلام الإسرائيلية وقادة عسكريون سابقون. فمثلاً، يشير اللواء احتياط غيورا أيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي، إلى أن حرب غزة كشفت النقاب عن سطحية المؤسسة السياسية الإسرائيلية وضحالتها، بدءاً من تصريحات قادتها الجوفاء بأن الضغط العسكري سيؤدي إلى إبرام صفقة مختطفين جيدة، بينما حصلت إسرائيل، وعندما كان الضغط العسكري "معتدلاً"، على صفقة جيدة نسبياً، مع إطلاق عشرات المختطفين يومياً. كما أن هناك مصطلحاً أجوف أكثر، هو "النصر المطلق"، والذي ما من معنى له سوى استسلام حركة حماس من دون شروط، وإطلاق كل المختطفين من دون شروط. ومن الواضح برأيه أن هذا لن يحدث، وأن هذا المصطلح الذي صاغه رئيس الحكومة قد يكون شعاراً انتخابياً ناجحاً لكنه ليس هدفاً حقيقياً ("يديعوت أحرونوت"، 27/2/2024). ويتفق مع هذا الاستنتاج لواء آخر في الاحتياط هو عاموس يدلين، الرئيس السابق لشعبة "أمان" ولـ"معهد أبحاث الأمن القومي"، الذي أكّد أن "النصر المطلق" الذي يحاول نتنياهو أن يظهر كأنه ينتظرنا خلف الباب هو مجرّد شعار فارغ من المضمون، وذرّ للرماد في العيون. وهذا يؤكد عليه أيضاً عدد كبير من المحللين السياسيين والدبلوماسيين الإسرائيليين السابقين الذين يشيرون في الوقت نفسه إلى أن نتنياهو ما زال متشبثاً بوهم "النصر المؤزر" لأنه يطيل أمد الحرب، ويؤجل فضْحه كزعيم فاشل.
ثالثاً، فيما يخص التوجهات الاستراتيجية- السياسية حيال المسألة الفلسطينية ومستقبل الاحتلال في أراضي 1967، يبدو أن هناك سكوتاً جماعياً للأحزاب السياسية المعارضة لنتنياهو الأمر الذي يعني عدم رؤية إسرائيلية بديلة للسياسة العامة حيال القضية الفلسطينية التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية الحالية. وحتى خلال قيام غانتس بزيارة إلى الولايات المتحدة إبان الحرب، لم يتوقع المحللون الإسرائيليون والأميركيون أن يتحدث مع مستضيفيه الأميركيين عن "حل الدولتين" لكونه يعارضه، أو عن وقف دائم لإطلاق النار في غزة لأنه يعارضه أيضاً. ومع ذلك، يمكنه أن يتحدث عن إدخال مساعدات إنسانية أكثر إلى غزة، وأن يعرب عن دعمه لمثل هذا الإجراء، ولكنه ليس هو مَن يقرّر بهذا الشأن بل نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرّف. ووفقاً لعديد التحليلات الإسرائيلية، فإن دعوة غانتس إلى زيارة واشنطن من خلال الالتفاف على نتنياهو، انطوت على رسالة من الإدارة الأميركية السابقة فحواها أنها ترى في ضيفها الزائر بديلاً لنتنياهو. وللتذكير، فإن هذا الأخير لم يتلق مثل هذه الدعوة إلى زيارة الولايات المتحدة منذ إقامة حكومته الحالية، وذلك خلافاً لما هو متبع عادة في سياق تاريخ العلاقات الثنائية بين الدولتين بعد انتهاء كل معركة انتخابات عامة.
رابعاً، تتمحور الخلافات بين نتنياهو وغانتس داخل الحكومة حول صفقة تبادل الأسرى من جهة، وحول التعامل مع قضية إنهاء الحرب من جهة أخرى. وانضافت إليهما أيضاً الأزمة المرتبطة بموضوع تجنيد الشبان اليهود الحريديم إلى صفوف الخدمة العسكرية الإلزامية. ويخضع نتنياهو قضيتي صفقة التبادل وإنهاء الحرب إلى أجندته الخاصة، ويقف في صلبها الحفاظ على ائتلافه الحكومي الذي يضمن له البقاء في منصبه أطول فترة ممكنة.

التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها