لم يكن أمراً مفاجئاً أن يصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "إعلاناً دستورياً" بتولي رئيس المجلس الوطني الفلسطيني منصب رئيس السلطة مؤقتاً، في حال شغوره لأي سبب طارئ، لحين إجراء انتخابات عامّة خلال 90 يوماً، قابلة للتمديد لمرة واحدة فقط. إذ كان القرار متوقعاً بالنظر إلى خطوات وإجراءات اتخذها عباس تباعاً في السنوات الأخيرة، بدءاً من تشكيل "المحكمة الدستورية"، وحل المجلس التشريعي الفلسطيني قبل 6 سنوات، ومروراً بالترويج لمسألة أن المجلس الوطني الفلسطيني يُعدّ دستورياً "السلطة العليا" لمنظمة التحرير والسلطة معاً، وكذلك انتخاب روحي فتوح عام 2022 رئيساً للمجلس الوطني خلفاً لسليم الزعنون، بموازاة إصدار "قرارات بقانون" بأمور متعددة.. كلها خطوات مهدت لذلك، وكان معلوماً لدائرة القرار الضيقة أن عباس سيتخذ خطوة من هذا النوع في وقت ما.
لكن المفاجئ فعلياً أن عباس انتظر زمناً طويلاً، واتخذ قراره المذكور في هذا التوقيت.. فلماذا الآن؟ وهل جاء لسبب متعلق بتدهور حالته الصحية؟ أم ضغوط سياسية دولية؟
استعداد لـ"المفاجأة"!
قيادي فلسطيني مقرب من عباس قال لـ"المدن" إن القرار جاء لترتيب الوضع المقبل، تلافياً لحدوث "مفاجأة" مرتبطة بصحة رئيس السلطة، كوفاته مثلاً، خصوصاً مع إتمامه قبل أيام قليلة عمر 90 عاماً.
وبشأن ارتباط الإعلان بحدوث تطور على حالته الصحية، أشار المصدر إلى أن صحة عباس "جيدة" بالنظر إلى عمره التسعيني، وأن "حالته الذهنية صافية ويستطيع الكلام بوعي"، عدا أن "وضعه الفيزيائي والحركي مقبول أيضاً". لكن هذا القيادي نوه في الوقت ذاته أن هناك قلقاً على عباس، بحكم عمره ووضعه، وهو ما استدعى اتخاذ القرار الآن، في سياق ضرورات اتخاذ ترتيبات للتهيئة لمرحلة ما بعده، في ظل "وقت حساس" داخلياً وإقليمياً ودولياً.
وعن علاقة الخطوة بضغوط دولية وإقليمية، نفى القيادي بالسلطة أن تكون الخطوة استجابة لضغوط أو مطالب خارجية، وإنما حاجة فلسطينية داخلية، معتبراً أن الضغوط موجودة منذ سنوات، وأن عباس رفضها دائماً. وكانت أحدث الضغوط عبر مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، وطرف عربي، حيث طُلب من قيادة السلطة أن تخطو باتجاه تحضير عباس لخليفته، وصياغة سلطة متجددة، كشرط لترتيب اليوم التالي فلسطينياً، سواء لقطاع غزة أو الضفة الغربية.
التفاف على سيناريو خارجي؟
ولفت القيادي الفلسطيني أن الضغط الأميركي والإقليمي أراد أن يفرض شخصاً من خارج المنظومة السياسية الفلسطينية، عبر الطلب من عباس استحداث منصب "نائب لرئيس السلطة" بمرسوم رئاسي، وهو أمر رفضه عباس، بقوله إنه "دستورياً لا يمكن استحداث منصب (نائب رئيس للسلطة)". وهذا يعني أن ثمة دافعاً آخر لقرار عباس، بحسب ما كشفه المصدر القيادي لـ"المدن"، ألا وهو قطع الطريق على محاولات خارجية لفرض سيناريو محدد لخلافته، عبر حسمه آلية ضامنة لبقاء المنظومة السياسية القائمة، تحت عنوان أنها "الطريقة الدستورية الوحيدة لخلافته بعد وفاته أو تنحيه عن منصبه".
وهنا، يبدو أن توصيات أمنية وسياسية مقربة من عباس كانت وراء الدفع نحو صدور الإعلان الدستوري الهادف إلى ترتيب وضع السلطة، استباقاً لأي تطورات ومفاجآت داخلية ودولية. وهو ما أكده المصدر القيادي نفسه، حيث كشف لـ"المدن" أنه من الدائرة التي نصحت عباس مراراً باتخاذ الخطوة، بوصفها "الخيار الأسلم والأفضل"، خصوصاً أن "التطورات السياسية خطيرة، وإذا لم يكن هناك انتقال سلس للسلطة، سيضعنا أمام مشكلة كبيرة".
ويُعد رئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتوح، شخصية "مريحة" لعباس ومقربيه، لأنه لا توجد لديه ولاءات خارجية مقلقة لقيادة السلطة، وعلاقته "طيبة" مع جميع أقطاب "فتح" والسلطة. وهذا ما أكده المصدر حينما وصف فتوح بشخصية "متزنة ومتوازنة، ويشكل قاسماً مشتركاً بين فتح والقوى السياسية المختلفة".
وحول قانونية الإعلان الدستوري، دافعت القيادات المقربة من عباس في أحاديثها لـ"المدن"، عن "إعلان" عباس، باعتبار أن "المجلس التشريعي جزء من المجلس الوطني"، وأن "الوطني" هو "المجلس الأم"، وفي غياب "التشريعي"، فإن "الوطني هو الهيئة التشريعية الموجودة"، بحسب المصدر.
مع العلم، أنه بموجب النظام الأساسي الفلسطيني، يتولى رئيس المجلس التشريعي رئاسة السلطة "مؤقتاً" لحين إجراء انتخابات، وهو ما حدث فعلياً عند وفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام 2004. لكن عباس حل "التشريعي" لمنع خلافته من رئيس المجلس عزيز دويك (المنتمي لحركة حماس)، والتهيئة لسيناريوهات أخرى، وإن حاولت قيادة السلطة تبرير الخطوة حينها، بأن "التشريعي" معطّل بسبب الانقسام، ومتجاوز لمدته القانونية، لعدم إجراء انتخابات في موعدها.
"دمج النظام الأساسي.. بميثاق المنظمة"!
بيدَ أن مصدراً فتحاوياً اعتبر في حديث لـ"المدن"، أن عباس دمج من خلال إعلانه بين النظام الأساسي للسلطة وميثاق منظمة التحرير، مشيراً إلى أنه أوضح "معالم" المرحلة السياسية الفلسطينية المقبلة بعد فترة من "التيه والغموض"، وذلك بإعادة الوزن إلى منظمة التحرير.
وبحسب المصدر، تريد الأطراف الداخلية والخارجية معرفة كيف ستكون الأمور إذا غادر عباس منصبه فجأة، سواء بالوفاة أو غيرها، موضحاً أن عباس أزال بقراره الغموض وعلامات الاستفهام بشأن كيفية ترتيب اليوم التالي له.
وبمنظور قيادة السلطة، تُعدّ الخطوة "تطمينية ودافعة نحو استقرار النظام السياسي في خضم العاصفة"، بينما أكدت مصادر "المدن" أن إعلان عباس قوبل برضى من أقطاب "فتح"، كونه يضمن التوازنات والمصالح المطلوبة. وبغض النظر عن دوافع الإعلان الدستوري، فإن أروقة قيادية بالسلطة و"فتح" أكدت لـ"المدن"، أن الخطوة جاءت في سياق الاستعداد لمرحلة جديدة فلسطينياً وإقليمياً.
وهذا ما خلص إليه أيضاً عضو المجلس الوطني الفلسطيني سمير عويس، إذ قال لـ"المدن" إن القرار بالمنطق النظري "إجراء طبيعي جداً"؛ لأنه وفّر نصاً "يخبرنا عن ما سيحدث إذا غاب عباس"، لكنه سياسياً يمثّل تحضيراً لتغييرات مرتبطة بالمرحلة المقبلة، ومحاولة للسيطرة على بذور صراع يتزايد داخلياً بشأن خلافة عباس، خصوصاً أن صحته "ليست جيّدة ومتذبذبة في اليوم الواحد"، وفق عويس.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها