الأحد 2023/01/01

آخر تحديث: 13:30 (بيروت)

تركيا والخسارة السورية:الكسب السريع يستبدل الاستثمار البعيد!

تركيا والخسارة السورية:الكسب السريع يستبدل الاستثمار البعيد!
increase حجم الخط decrease
ربما كان صحيحاً أن اللقاء الذي جمع وزراء دفاع كل من تركيا وروسيا ونظام الأسد الأربعاء، كان مباغتاً، لكن فقط من حيث التوقيت، فهو لم يكن وليد ساعته، بل جاء نتيجة للقاءات تمهيدية بدأت بطابع أمني بين رؤساء أجهزة الاستخبارات، ثم مرّت بمحطة تقنية تمثلت بلقاء وفود من الجانبين، تردد الحديث عن مشاركة قادة فصائل عسكرية محسوبة على الثورة موالية لتركيا فيها في معبر كسب، ثم تُوجت بلقاء وزاري رفيع المستوى أخيراً.
لعل هذا التسلسل في اللقاءات المتعاقبة يوجب على المرء أن يتجاوز الكثير من التكهنات التي حاولت اختزال التقارب التركي الأسدي بالاستحقاق الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، لكن يبدو من المهم الإشارة إلى أن تركيا باتت عازمة، ليس على مجرد استدارة محدودة الأفق مع نظام الأسد، بل هي ماضية في انفتاح متعدد المجالات، وهذا ما أفصح عنه اللقاء الثلاثي الأخير في موسكو.
شملت الموضوعات المطروحة في الاجتماع الجانب التجاري والأمني فضلاً عن إعادة اللاجئين السوريين، وهذا بالطبع لا يمنع من أن يكون الاستحقاق الانتخابي المقبل دافعاً بارزاً في هذه الانعطافة التركية، ليس من خلال سحب ورقة اللاجئين السوريين من يد المعارضة التركية فحسب، بل حافزاً لكسب أصوات العلويين الأتراك الذين ينظرون بعين الرضا إلى أي تقارب تركي مع نظام الأسد.
لعل اللافت في الأمر هو السلاسة التي تجدها حكومة أنقرة في استدارتها السياسية نحو نظام دمشق دون أن يكون لارتباطاتها المتينة مع المعارضة السورية أية موانع، بل يمكن التأكيد على أن موقف المعارضة السورية الرسمية لم يكن يحتل أيّ حيّز في مجمل التفاهمات البينية، سواء بين روسيا وتركيا أو بين تركيا وإيران. ولم يكن هذا الانزياح للدور السوري المفترض أمراً مرتبطاً بقرار تركي مفاجئ، بقدر ما جاء عبر سيرورة استطاعت أنقرة من خلالها ترويض المعارضة السورية واحتواءها، ومن ثم استثمارها بغية حصر دورها في جانب وظيفي محدد لا يمكن لها أن تتجاوزه.
وهكذا كان مسار أستانة عبارة عن إطار للتفاهمات الروسية التركية ليس على الجغرافية السورية فحسب بل في أماكن أخرى من العالم، ولكن ما لا يمكن لتركيا أن تتجاهله هو أن قدرتها على احتواء المعارضة السورية والسيطرة عليها وتطويعها لخدمة مصالحها، لا تعني أبداً القدرة ذاتها على احتواء ومصادرة موقف عموم السوريين المناهضين للأسد، ولعل هذا أهم مباعث انزعاج الحكومة التركية من الحراك الشعبي الذي اندلع كالبركان في كافة مدن وبلدات الشمال السوري تمايزاً عن الموقف التركي بخصوص نظام الأسد، وتأكيداً في الوقت ذاته على الرفض المطلق لأي تراجع عن ثوابت الثورة التي ترى في زوال نظام الأسد مدخلاً أساسياً لحل القضية السورية، كما يتوجب على أنقرة أن تدرك أن تلك المعارضة المنقادة لها بسلاسة مطلقة  باتت في أعين السوريين لا تختلف كثيراً عن نظام الأسد، من حيث أنها باتت جزءاً من المشكلة ولا تصلح أن تكون حاملة لمشروع الثورة.
ولعل من قائل إن من حق تركيا رسم سياساتها وبناء علاقاتها وفق ما تقتضيه مصالحها السياسية والاقتصادية، الداخلية منها والخارجية، وليس للسوريين الحق في الاعتراض عليها، وهذا صحيح لو لم يكن التحول في السياسة التركية يمسّ جوهر القضية السورية في الصميم، والتي بات السوريون متأكدون من تخلي الحلفاء والأصدقاء عن نصرتها، والتسابق لكسب ود أكبر مجرم وقاتل في التاريخ والتطبيع معه، وهذا ما عبر عنه الحراك الثوري الصادق بشكل جلي وواضح الجمعة، ليُسمع صوته للعالم اجمع.
الغريب لكن غير المستغرب أنه ورغم هذا الغليان الشعبي والبركان الهائج رفضاً لما جرى، بقيت هياكل المعارضة الرسمية بشقيها السياسي والعسكري، المصنعة والمدجنة من قبل أجهزة استخبارات الدول النافذة في الملف السورية، عاجزة عن مواكبة الشارع الثوري والتعبير عن أهدافه بإسقاط حكم الاستبداد وبناء دولة العدالة والقانون.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: هل التفاهمات التركية-الروسية، إضافة إلى تماهي المعارضة السورية مع الموقف التركي يُعدّ أمراً كافياً وضامناً لتحقيق المصالح التركية في سوريل؟
لعله من البدهي القول إن ما تريده أنقرة من دمشق أولاً يتجسّد بضمانات يقدمها نظام الأسد بإبعاد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" عن حدودها، أو تقويض مشروعها، فهل بوسع نظام الأسد تحقيق هذا المطلب التركي؟ وهل يجرؤ نظام الأسد وحليفه الروسي على الاقتراب من أماكن سيطرة قسد طالما أنها تحت المظلة الأميركية؟
ثم إن كانت أنقرة تأمل في أن تكون سوريا رئة عبور للاقتصاد والتجارة التركية نحو الأردن وبلدان الخليج العربي، فهل سيتحقق ذلك في ظل العقوبات الصارمة التي تفرضها الولايات المتحدة على نظام دمشق؟ 
قد يكون صحيحاً أن واشنطن لا تزال تنأى بنفسها عن الانخراط المباشر والعميق في المشكلة السورية، إلّا أنها في الوقت ذاته قادرة على تعطيل أي مشروع لا يتوافق مع مصالحها أو توجهاتها، ويكفي الإشارة إلى أنها تضع يدها على القسم الأهم من الجغرافية السورية، بل هي من تسيطر سيطرة مباشرة على الغلة الاقتصادية السورية، ونعني بذلك قطّاع المنتوجات الزراعية وقطاع النفط، وبالتالي ألا يمكن أن يكون الجموح التركي نحو نظام متهالك وضالع في الإجرام ومنبوذ دولياً وإقليمياً ينطوي على جانب كبير من المغامرة ليس بمكاسب مادية فحسب، بل بجانب أخلاقي وقيمي كان موضع اعتبار في يوم ما، من جانب الشعب السوري؟
بكل صراحة إن الحسابات التركية في انعطافتها نحو نظام الأسد تبدو حسابات ربحية تبحث عن الكسب السريع، وليست حسابات استثمارية تبنى على استراتيجية المكاسب الكبيرة، المادية والسياسية والأخلاقية في الوقت نفسه، وهي الاستراتيجية التي كانت تمضي بصعوبة لكن بثبات ونجاح في سوريا وغير سوريا، لولا انتصار ضغط الحملة الانتخابية على كل ما عداه، ولهذا ثمن بطبيعة الحال.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها