الجمعة 2022/09/16

آخر تحديث: 16:59 (بيروت)

حول سوريا والمصالحة والتطبيع

الجمعة 2022/09/16
حول سوريا والمصالحة والتطبيع
increase حجم الخط decrease
حتى الآن ما زال النظام السوري غير قادر على الخروج من وضعه كنظام منبوذ. صحيح أنه حقق مكاسب معنوية محدودة بعد تطبيع الإمارات والبحرين للعلاقات معه، لكن ذلك لم يتحول أبدا إلى عملية منظمة لإعادة تسويقه، وكان فشل محاولة الجزائر لدعوته على القمة العربية المقبلة آخر مثال على استمرار عزلته، وعلى المصاعب التي يواجهها المروجون لفكرة التقارب معه.
بطبيعة الحال، استفاد النظام من إفلاته من الهزيمة بعد التدخل العسكري الروسي عام 2015 وقبل ذلك بالدعم الإيراني، استفاد من ذلك ليجعل من وجوده أمراً واقعاً لا يمكن للأطراف الإقليمية أو الدولية تجاوزه، وبالتالي المراهنة على اضطرار هؤلاء للتعامل معه، تحت ضغط الحاجة للمكانة الاستراتيجية لسوريا في التوازن الإقليمي، وفي مجمل العلاقات بين دول المنطقة وبقية دول العالم.
ويقابل شعور النظام بما وفرته "النجاة" من الهزيمة من فرص له بالبقاء، تراجع واضح لقوى المعارضة، بعدما رحل معظم قادتها الأساسيين، واستهلكت الحرب والأزمات والمصالح الخارجية والداخلية وتغيرات موازين القوى، قدرتها على الاستمرار بالحفاظ على مكتسباتها الواسعة على الأرض، وهو واقع عززه ظهور الفصائل المتطرفة التي توصف بالإرهابية والتي حاربت المعارضة أكثر مما حاربت النظام.
في الوقت ذاته، راهن النظام على عنصر الوقت، ونجح نسبياً بذلك. هو يدرك بطبيعة الحال، أن الظروف تتغير، وكذلك الحكومات وأولويات المصالح والاعتبارات السياسية، وأن ذلك سيوفر في وقت ما ثغرة ينفذ منها للتخلص من العزلة، بل وحتى الالتفاف على القرارات الدولية، والاتهامات بارتكاب جرائم حرب، والاعتماد على المصالح وبراغماتية الآخرين لا سيما في الغرب المتشح بالمقولات الأخلاقية لكنه ليس مستعداً للتفريط بمصالحه الاقتصادية والسياسية أو بالتغاضي عن التحديات الجيوسياسية التي يواجهها.
في وسط هذا السياق، تخرج دعوات من هنا وهناك للمصالحة بين المعارضة والنظام، وبدأ البعض يروج لفكرة أن الصراع في سوريا هو مجرد حرب أهلية، وقد حان وقت "التصالح" بين أطرافها من السوريين! بالطبع ليس مهماً ما يقف وراء هذا التسطيح للقضية السورية، وهذا الجهد لرمي مسؤولية ما حصل على الشعب الذي هو عند هؤلاء من قتل نفسه، وهجّر بعضه بعضا، ودمر مدنه، وهتك أعراض نسائه، وأقام سجوناً ملأها بأبنائه، ثم قتلهم تعذيباً وتجويعاً. هؤلاء يقدمون الأمر بهذه الغباء أو الاستغباء.. سيان، فهم في النهاية يقومون بدور يمكن أن يكبر ويستمر، ويتضمن تحريف تاريخ الثورة في سوريا، وجعل حالة "الغباء- الاستغباء" حلاً افتراضيا مريحا لمن لا يجد فرصة لمحاسبة النظام المجرم، على قاعدة "عفا الله عما مضى" مفترضاً أن النظام سيتعامل معه بمسؤولية "أبوية" وسيسمح له بعودة آمنة لدياره ولن يحاسبه على نزوحه ولجوئه ومطالبته بالحرية والكرامة، وربما يغفر له أنه لم يُقتل مع من لقي حتفه بالبراميل المتفجرة أو بالأسلحة الكيمياوية، أو أنه بشكل ما أفلت من الاعتقال والتعذيب.   
لا يمكن تقديم دعوات "المصالحة" إلا بهذا الخيال السيريالي الساخر المفجع، ولذلك فهذه الدعوات بحقيقتها ليست "غبية" بل هي جزء من عناصر الجريمة، هي محاولة تبدو ساذجة لكنها في واقع الأمر جادة لقتل الحقيقة، والسعي لجعل القاتل حكماً بين الضحايا، ولماذا؟ لأن هناك في منطقتنا من يريد إعادة إنتاج النظام السوري ومن ثم التعامل معه بلا عواقب ولا تأنيب، ومن يريد تمرير المشروع الإيراني الذي بات يحمل أوصافا عدة من بينها "محور المقاومة"، دون عقبات أو اتهامات من أهمها أنه سلب سوريا من شعبها بدعوى تحرير فلسطين من مغتصبها.
هي دعوات ما زالت حتى اللحظة تصدر من أطراف هامشية، لا قيمة لها، وقد لقيت رفضاً واسعاً ومؤثراً من السوريين، لكن المهم هو ما يحرك هذا التيار، وما يضمره من مراحل متتابعة لتحقيق أغراضه، ولذلك، فالأمر ليس فقط بالرفض ومواجهة هذه الدعوات بقوة، بل بوضع أجندة واضحة لما يتطلبه الأمر كي يجري حل الأزمة في سوريا. هذه الأجندة هي الحد المسموح به، ومن يريد من تنظيمات أو دول الدعوة إلى "اتفاق" أو "مصالحة" مع النظام فليعد إلى هذه الأجندة أو الشروط التي ستكون الخط الفاصل بين التسوية العادلة وبين الاستسلام المخزي.
الثورة تعرف أن الصراعات لا بد وأن تنتهي بنصر وهزيمة أو بتسوية وتنازلات متقابلة، وفي الحالة السورية، ما زال المجتمع الدولي يعتقد أن قرار مجلس الأمن 2254 هو الإطار المناسب للتسوية، لكن النظام تفلّت منه، والعالم فشل في إجباره على الامتثال له، ولذلك فمن يريد أن يرى تسوية ما في سوريا فليقم بتطبيق ذلك القرار وبناء نظام محكم للعدالة الانتقالية لا تستثني أحداً أجرم بحق الشعب، وأن يقوم كل حل في الأفق على أساس مخرجات تلك العدالة وعلى عودة السلطة للشعب، وإخراج سوريا من التلاعب الإقليمي الذي نفذته إيران ورهنت به النظام لخدمتها وشاركته بجرائمه كلها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها