الإثنين 2022/05/09

آخر تحديث: 15:19 (بيروت)

سوريا الحقيقية تحت جسر الرئيس

الإثنين 2022/05/09
سوريا الحقيقية تحت جسر الرئيس
increase حجم الخط decrease
يبدو مفزعا مرآى من يبحث عن امل وهو يعرف أنه مستحيل. تراه يتشبث بوهم، أو يتعلق بخيط رجاء، رغم علمه أنه سينقطع، ومعه سيقطع شريان آخر من روحه التائهة. 
كل من احتشدوا تحت "جسر الرئيس" في دمشق كانوا كذلك.. رجال ونساء، شباب وكبار سن، ينتظرون سراب أبنائهم وآبائهم واخوانهم المعتقلين أو المختفين قسرا منذ سنوات، دون أن يعرفوا حتى إن كانوا أحياء أم أمواتا. كان كل واحد من أولئك السوريين اليائسين، ينتظر أن يطل عليهم وجه فقيده، وبعدما فقد معظمهم الأمل عادوا ليحزنوا من جديد كما فعلوا في أول أيام الفَقد، وكأن "عفو الرئيس" كان مقصودا لتذكير من حاول منهم التناسي أن يستعيد حزنه، فليس مقدرا لأحد في سوريا أن يعيش دون حزن، والمهم أن يكون حزنا مصحوبا باليأس، فهذان هما الوصفة الناجعة لاستلاب الناس أرواحهم، وحكمهم كقطيع بلا ملامح ولا فرصة ولا أمل.
في ذلك اليوم خلال عيد الفطر خرج عشرات السجناء من سجن صيدنايا من بين عدد غير محدد من المعتقلين والمختفين قسريا في سوريا، يقدر عددهم بنحو نصف مليون منهم 132 ألف شخص موثّقين بالاسم، وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان.
تصف منظمات حقوق الانسان الدولية سجن صيدنايا في ريف دمشق، بأنه مسلخ بشري، وقال رئيس لجنة التحقيق المعنية بسوريا لدى الأمم المتحدة باولو بينيرو تعليقا على (العفو الرئاسي)، إن معظم المعتقلين في سجون الاسد أُعدموا بالفعل ودُفنوا في مقابر جماعية، فيما قال المرصد السوري لحقوق الانسان إن عدد من جرى توثيق مقتله تحت التعذيب في السجون السورية يصل إلى نحو 50 ألف شخص، من بين أكثر من 105 التف فارقوا الحياة خلال اعتقالهم، باستثناء الذين جرى اعدامهم.
هذه الأرقام تجعل من كل معتقل سوري مشروع قتيل، ومع انعدام تواصل السجناء مع أهاليهم لسنوات، ومع الإخفاء الحكومي الكامل لأية معلومة عنهم، لا يعود الأمل بنجاة السجناء وعودتهم للحياة مطروحا، وسيكون أفضل ما يحصل عليه ذووهم أن يعرفوا بأمر موتهم، فهم على الأقل سيكفون عن القلق على مصائرهم وعلى تخلصهم من التعذيب الذي يقتلهم كل يوم، او أنهم سيقيمون لهم العزاء ولو داخل أنفسهم، لكن حتى الموت صار عزيزا بل ورحيما في سوريا الأسد، سواء للقتيل او لذويه.
"عفو الرئيس" بعث أملا مفجعا لدى هؤلاء. أحالهم من جديد إلى سراب العدم، إلى الأمل بأن يكون من فقدوا بين المفرج عنهم، فالعفو شامل وبلا استثناءات كثير كما في كل مرة، ولكن بعد ليلة اليأس تحت الجسر، لم يخرج من صيدنايا إلا أقل من 200 سجين، غالبيتهم فقدوا ذاكرتهم أو باتوا عاجزين عن الحركة او الكلام او الادراك. الاسد افرج في واقع الأمر عن بقايا أجساد آدمية كل ميزتها أنها ما زالت تتنفس، لكن أرواحهم استلبت منهم في تلك الأقبية من سنين.
سأدعي الحياد لوهلة، واتساءل عن أي مشاعر تملكت بشار الأسد وهو يراقب صور آلاف المحتشدين تحت الجسر بانتظار ذويهم، أو وهو يتابع صور المفرج عنهم وهم بتلك الحالة: حفاة هائمون بلا إدراك ولا ملامح، هل سيحزن، أم سيغضب من الجلادين على ما فعلوا بمن يفترض أنهم شعبه، أم تراه سيندم على ما فعل، وهو يرى نماذج حقيقية هي حرفيا بعض من أفضل ممن نجا من ضحاياه؟ هل سيفعل ذلك؟ 
أدرك انه سؤال افتراضي عبثي إجابته معروفة، لكنه مقصود لنعيد بناء صورة سوريا التي غابت عن وسائل الإعلام والجهد السياسي أو كادت حتى جاءت مجزرة حي التضامن لتصفع بها الصامتين والمتناسين وأسرى "التغاضي" عن كل ما يثير وجع الراس ووجع الضمير، ثم جاءت مهزلة "العفو الرئاسي" لتكرر الصفعة، ولتنبه هذه المرة من نسي أو من توهم بوجود ما يسمى "سوريا المفيدة"، بأنها ليست غير وهم في العقل المريض للأسد، وفي الحقيقة، لا توجد سوريا مفيدة، بل هناك فقط سوريا الحقيقة، هي التي كان جزء منها حاضر في ذلك اليوم تحت "جسر الرئيس".
في سوريا الحقيقية، هناك شعب تحت تراب البلاد، وشعب لاجئ يعيش خارج البلاد، وشعب نازح يعيش في مخيمات خارج دياره، في جزء من البلاد، وشعب داخل السجون- المسالخ، جميعهم مشاريع قتلى، ومن ينجو منهم، سيخرج ببقايا جسد وشبه روح، وشعب خارج السجون، يقطن داخل البلاد، يبدو للرائي أنه حر، لكنه يعيش ذليلا، مهانا، يجب ان يكون بلا كرامة ليبقى حيا.
هذا الجزء الأخير من سوريا الحقيقية هو من قضى ليلته تلك تحت "جسر الرئيس"، يمزج الأمل مع القلق والمهانة وقلة الحيلة، حتى أن التساؤل عن علاقة هؤلاء بالنظام وقبولهم أو ربما ولعهم به  سيكون تساؤلا لئيما، لا منطق له، ولا داعٍ، فبعد أحد عشر عاما من الإذلال، وقبلها اكثر من 40 عاما من الاستبداد، لا يمكن ان تكون فرصة اصلا لوجود رأي بالاصل عند هؤلاء، لا يمكن ان تسأل سجينا عن رأيه في سجانه، سواء كان في الزنازين ام في بيته يخشى حتى من همس قبله أو من أجهزة تترصد أحلامه وتعاقبه عليها. 
هؤلاء السوريون "في الداخل" هم ضحايا لا تقل مأساتهم عن ملايين آخرين من اللاجئين والنازحين، وكذلك عن المعتقلين والمغيبين، رأينا وجوههم في يوم احتشادهم، رأينا الرجاء اليائس والخوف والقهر، رأينا سوريا الحقيقية، التي اختفت او ربما تشوهت، بفعل الدعاية المضللة أو أخطاء المعارضة، أو الوقوع في فخ الاستقطاب والانقسام الذي نصبه النظام لنا كي يجعل منا جزر متعددة تتقاتل مع بعضها لحسابه.
أراد نظام الأسد بقرار العفو أن يسكت "شوشرة" مجزرة حي التضامن فإذا به يكشف عن جزء يسير لكنه كاف لندرك ذلك الجانب المعتم من "سوريا الحقيقية"، ذلك الجانب الذي يجعل ماساتنا أكبر من معاناة النفي والاغتراب والنزوح، فهي مأساة كل سوريا وشعبها، ولن أشرك معهم عبيد النظام وجلاديه، فهؤلاء ليسوا بآدميين وليسوا بسوريين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها