الثلاثاء 2022/05/03

آخر تحديث: 11:22 (بيروت)

الجثة الأكبر في حفرة حي التضامن

الثلاثاء 2022/05/03
الجثة الأكبر في حفرة حي التضامن
increase حجم الخط decrease
دعتني مشاهد القتل في حي التضامن إلى التساؤل فيما لو كانت الحفرة التي هيأها أمجد يوسف وشركاؤه أكبر وأعمق، فكم كان سيكون عدد الضحايا؟ قتل هؤلاء 41 ضحية ثم أحرقوا جثثهم، ولكن كم قتلوا قبل ذلك وبعده حتى يومنا هذا؟ كان من الصعب تتبع تفاصيل المذبحة مع قسوة مشاهدها، لكن يظهر أنها ذات سياق، هناك ما قبلها وما بعدها. ليست عفوية أو رد فعل غاضب أو نزوة ناتجة عن عقل مريض فحسب. ومن خلال معاينة أدوات الجريمة، أمكن، على سبيل المثال، ملاحظة الإطارات المطاطية، التي هيأها القتلة داخل الحفرة لإحراق الجثث لاحقا، بينما تتحدث ملابس الضحايا عن هوياتهم، ويظهر أن بعض المغدورين اقتيد من بيته، وهناك من كان في الشارع مرتديا ملابس رسمية، أو في دكانه، أو يجر عربة خضار، وبالتالي ليس بينهم من هو مسلح. وحتى تكتمل عناصر التراجيديا، فإن حفلة القتل كانت أشبعت غرائز القاتل، الذي تفاخر بإزهاق الأرواح أمام الكاميرا، ولم يغفل توجيه تحية ل"المعلم"، والتسلي بإذلال الضحايا قبل دفعهم للحفرة، أو أمرهم بالمسير نحوها معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي.
ما ظهر في المقطع المصور ليس كل شيء، هناك الكثير الذي لم تتحدث عنه الكاميرا، وكشف عنه تحقيق صحيفة الغارديان البريطانية، وفيه تفاصيل عن عمليات اغتصاب وقتل نساء وأطفال وابتزاز واسع النطاق وتعذيب واعتقالات وإخفاء قسري، وروايات من شهود واعترافات من القتلة، تنهي أي جدل بشأن مسؤولية النظام المباشرة عما حدث. ولا يبدو حي التضامن أول مسرح لجريمة من هذا النوع في سوريا ولا الأخير، فكل مدنها وبلداتها عرفت هذا النمط من القتل، سوريا كلها، باتت مسرح جريمة مفتوحا، أحالها بشار الأسد إلى مقبرة بالمعنى الحرفي، هناك على الأرجح مقابر جماعية لم يتم اكتشافها بعد، هذا عدا المجازر التي يعرفها العالم، ولم تحرك لديه رد، ومنها مجازر الغوطة وداريا، وخان شيخون وحلب وحماه.
أصبحت المجازر مجرد مذكرات رسمية وكتابات على مواقع الانترنت فيما يعيش القتلة يصولون ويجولون طلقاء، بل أن رئيس النظام الذي دشن هذا الطريق الجهنمي، يتصرف على نحو طبيعي حتى أنه يزور مركزا للأيتام، وعلى محياه شفقة كاذبة على أبناء ضحاياه، ما يجسد مشهدا مأساويا لحالة إفلات من العقاب هي الأسوأ التي يشهدها عالمنا المعاصر. أما ابتسامة الزهو على شفتيه، فهي ثمرة حركة تطبيع يتزايد معه، وتخلٍ عالمي عن شعب بقي تحت سطوته.
والسؤال الطويل والمتعب دوما، هو لماذا استمرت حفلات القتل في سوريا طوال 11 عاما؟ جزء من الاجابة، يمكن أن نراه وسط الجثث في حفرة حي التضامن، جثة هي الأكبر بينها، تكبر كلما ألقى أمجد يوسف ضحية جديدة في الحفرة، لقد كبرت حتى غطت على كل الضحايا، لكنها لم تكن تشبههم، ولا هي منهم، ذات الجثة التي تجول بين ضحايا المجازر في سوريا من حلب إلى درعا، ومن دير الزور إلى بانياس، تراقب حفلات القتل الجماعي، وحرق الجثث، ومشاهد البراميل المتفجرة، والقصف الكيمياوي، وفضائح التعذيب، وكل ما جعل سوريا قبرا وسجنا وملاذا للمجرمين والمرتزقة والميليشيات الطائفية الإيرانية من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان، بالإضافة إلى "فرقة فاغنر" الروسية.
التجاهل السياسي جزء مما يجري، وإن لم يحمل بندقية ويقتل، ويشعل الحرائق. عدمُ رد الفعل أمام سورية ومأساتها، منحَ المجرم الفرصة تلو الفرصة للتمادي والاستمرار والإفلات من العقاب، ولم يتعامل المجتمع الدولي بالقدر المناسب أخلاقيا أو مهنيا مع الدراما السورية، كما يفعل الآن على الأقل مع الحرب الراهنة في أوكرانيا، فكان مجرد خصم غير مزعج للقتلة، فمنحهم فرصة التقاط الأنفاس، وسرد رواية مشوهة لما يجري وتزوير الحقيقة، بل وإعادة تأهيل ليعودوا بهيئة رجال دولة وحماة وطن. 
أما الإعلام الذي من المفترض أن يكتب المسودة الأولى للتاريخ ويحيي قضايا الشعوب، فهو الجثة الأكبر وسط كل الحفر والقبور الجماعية في سوريا. هو الشاهد الصامت أو الأصم، أو أنه اهتم جزئيا وحسب ضرورات السياسة وضغوطها، وفي أحسن الأحوال وفق تقديرات مهنية.
ولا يمكن أن نعفي ضفة من الإعلام العربي، تتحكم به أجندات سياسية ومصالح، حتى أنه أضحى جزءا من مشهد التزييف والتضليل وغسيل الأدمغة لإعادة انتاج النظام في سوريا، لأغراض سياسية معروفة أهمها على الاطلاق خدمة إسرائيل، ودعم مصالحها الأمنية، لذلك جاءت مرحلة التطبيع مع نظام الاسد، في نفس سياق التطبيع مع إسرائيل.
ما الذي كان ينقص مجزرة حي التضامن، لتحظى بتغطية اعلامية مناسبة تعيد التذكير بأحد عشر عاما من القتل مع عشرات المجازر الكبرى الموثقة دوليا. وهناك سؤال يستحق التوقف أمامه، لماذا كشفت جريدة الغارديان البريطانية عن مذبحة حي التضامن، ولم تكشفها مؤسسة اعلامية عربية، هل علينا الانتظار في كل مرة تفضل الاعلام الغربي وكشفه عن قضايانا، رغم أن من بين المؤسسات العربية من يرى نفسه ندا للإعلام الدولي، وحقق بالفعل نجاحات جيدة في الصحافة الاستقصائية؟ 
كان يمكن تجاوز عقدة الغارديان، لو أفرد الاعلام العربي مساحات واسعة ذلك اليوم، تعطي المجزرة وما يرتبط بها ما تستحقه من سرد ونقاش وتحليل، في وقت مثالي يبدو فيه العالم مستعد من الناحية النظرية لإحياء ملفات جرائم الأنظمة الاستبدادية التي ترتبط بروسيا، لكن تحقيق الغارديان، الذي استغرق سنوات وباحثين وصحفيين، لم ينل على وسائل الاعلام العربية إلا خبرا وتقريرا يتيما كأي حدث عابر، ربما بسبب ما اعتبره البعض من الصحفيين أنها جريمة قديمة ومتكررة، وكأن الإجرام تخف حدته بالتقادم، أو قد يكون للانشغال بدوامة الأحداث الاوكرانية، وكلا السببين قصور في الرؤية والمهنية.
وحتى لا نقع في التعميم، يجب الاعتراف بأن هناك إعلاما عربيا مهما وواسع الانتشار، واكب المأساة السورية في أعوامها الأولى، لكنه وخارج السياسة وضغوطها ومتغيراتها، فشل في مواصلة المواكبة، وربما تعب منها، أو أنه أخضع ما هو أخلاقي وتاريخي وإنساني إلى اعتبارات نسب المشاهدة واتجاهات الاعلام الدولي والحسابات الشخصية للمشرفين على غرف التحرير، وميول الجمهور، حتى غرق في معايير وضعته في خانة الاعلام الذي يصرخ في وادٍ بعيد عن ساحة المسؤولية والشرف المهني، وبل وحتى عن أولويات القرب الجغرافي للحدث.
موقف الاعلام العربي من مذبحة حي التضامن غير مسؤول ومعيب أخلاقيا، فضلا عن أنه غير مهني، ولولا وسائل التواصل، وما أثاره الناس العاديون من إدانات وتذكير بجرائم النظام، لمضت هذه المذبحة بلا أثر، أو إحداث هزة لوجدان وضميرعربي ودولي، يأمل السوريون أن لا يكون قد تحول إلى جثة هو الآخر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها