الخميس 2022/05/26

آخر تحديث: 13:18 (بيروت)

حديث المنطقة الآمنة..الظرف مناسب

حديث المنطقة الآمنة..الظرف مناسب
increase حجم الخط decrease
أعاد خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاثنين، من جديد فكرة احياء المنطقة الآمنة التي لم تدخر أنقرة جهداً في المطالبة بإقامتها على مدى السنوات العشر الماضية، كما لم تخفِ منذ العام 2013 رغبتها الشديدة في إنشاء منطقة آمنة بعمق 32 كيلومتراً داخل الأراضي السورية يتم بموجبها حظر دولي على طيران النظام وحلفائه، وكذلك لم تخفِ هدفها المراد من وراء هذا المطلب المتمثل بمسألتين، الأولى ذات صلة بمفهوم الأمن القومي التركي، أي الحيلولة دون قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية، اما الثانية  فتكمن في رغبة تركيا بأ ن تكون تلك المنطقة ملاذاً آمناً يعفيها من عبء اللاجئين السوريين في تركيا.
الرغبة التركية لم تكن تحظى بموافقة دولية على الدوام،  بل جوبهت بالرفض من معظم الأطراف الدولية النافذة في الشأن السوري، غير ان هذا الرفض لم يحُل دون أن تبقى هذه الرغبة موجودة على الدوام لدى الأتراك، إذ لم تجد أنقرة فرصة إلا وبادرت نحو تحقيق هذا المسعى ولو بشكل جزئي، ففي آب/أغسطس 2016 قامت تركيا بالتنسيق مع فصائل الجيش الحر بعملية درع الفرات وطرد تنظيم "داعش" من مدينة جرابلس الحدودية، تلاها في شباط/فبراير 2017 طرد التنظيم من مدينة الباب بعد معركة كبيرة ارتقى فيها العديد من أفراد الجيش التركي، وفي كانون الثاني/يناير 2018 قام الجيش التركي أيضا بالتنسيق مع فصائل الجيش الوطني بطرد ميليشيا حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وذراعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي ( ب ي د)، من مدينة عفرين التي تعتبر أحد أهم قلاع التنظيم، وبهذا تكون أنقرة قد نفذت شطراً مما تهدف إليه، إذ إن طرد قسد وداعش من تلك المناطق مكنها من قطع الطريق أمام تطلعات عصابات قنديل التي كانت تهدف إلى السيطرة على المنطقة الممتدة من عين العرب حتى عفرين.
في خريف 2019 عززت تركيا رغبتها الأمنية بالتوغل شرقاً فاستطاعت ان تطرد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من مدينة رأس العين في ريف الحسكة ومدينة تل أبيض في ريف الرقة الشمالي، وربما كان الأتراك يتطلعون للمضي قدماً في تعقب فلول التنظيم لولا المعارضة الأميركية ومن خلفها الأوروبية التي أوقفت تلك العملية، الا أن توقيفها لم يوقف التفكير بإتمامها عندما تحين الفرصة.
المناخ الدولي والإقليمي الآن ربما يكون مناسباً بالنسبة إلى أنقرة أكثر من ذي قبل لإحياء فكرة المنطقة الآمنة، وذلك لبروز مستجدين اثنين، أولهما الغزو الروسي لأوكرانيا الذي أوجد موقفاً دولياً مناهضاً لسياسات بوتين، ما أدى إلى حشره في زاوية ضيقة وجعله في موقف المستجدي لنصرة تركيا، بالمقابل فإن أنقرة لم توفر لحظة الضعف الروسية لتضع مصالحها في لائحة المطالب التي تريدها من بوتين، ولعل أبرزها رفع يد الروس عن منطقة عين عيسى، ومدينة تل رفعت وما حولها التي احتلتها ميليشيا (ب ي د)  في العام 2016 بمساندة القوات الروسية في أعقاب اسقاط الطائرة الروسية من قبل سلاح الجو التركي، فيما يتمثل المستجد الثاني بإعلان كل من فنلندا والسويد رغبتهما بالانضمام الى حلف الناتو الذي تُعدُّ تركيا أحد اعضائه المؤسسين، وبالتالي لن تفوت أنقرة أن تستغل رغبة هذين البلدين لتعلن عن مطالبها الرامية إلى توقف الدولتين عن دعمهما لخصمها التقليدي حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعتبر امتدادا لحزب العمال الكردستاني المصنف على لوائح المنظمات الارهابية، وبهذا تكون أنقرة قد وجدت المناخ الدولي مناسباً جداً لطرح فكرتها القديمة الجديدة، علها تستثمر هذه المتغيرات الجديدة في السياسة الدولية في إحداث شرخ في الموقف الأوربي والغربي عموماً يتيح لها متابعة تحقيق مطلبها في إنجاز هذه المنطقة.
ولعله ليس من قبيل الصدفة أن يتزامن الطرح التركي حول تحقيق المنطقة الآمنة مع  طرحها المتزامن بإعادة مليون لاجئ سوري إلى مناطق الشمال، وربما أرادت تركيا من هذه المزامنة أن توحي للمجتمع الدولي بأن هدفها من إنشاء هذه المنطقة لا يمكن حصره بمصالحها الأمنية فحسب، بل بحل معضلة إنسانية تتمثل باللاجئين الموجودين على أراضيها والذي يناهز عددهم أربعة ملايين لاجئ.
على الرغم من هذا الزخم في الخطاب السياسي التركي حول مشروع إعادة اللاجئين وكذلك على الرغم من  لهجة التصعيد التركية، إلا أن المواقف الدولية من المسعى التركي ما زالت شبه مبهمة، بل هي مزيج من الرفض غير المعلن، باستثناء الموقف الأميركي الذي حذر من أي عملية عسكرية تستهدف المناطق التي يتواجد فيها جنود أميركيون، ولعله حتى الان لم يفلح الخطاب التركي في استثارة ردود الفعل الغربية على وجه التحديد وهذا ما يجعل المتابع غير قادر على التكهن فيما سيقدم عليه صانع القرار التركي، اذ يمكن الذهاب إلى أن المناطق التي تتطلع تركيا الى التوجه اليها لا تخضع لجهة دولية واحدة بل لجهات مختلفة تتراوح بين الولايات المتحدة وروسيا، ونظام الأسد، وما تصريح الرئيس التركي: "الآن سوف يتبين من سيأخذ مصالحنا القومية بعين الاعتبار ممن لا يعبأ بذلك"، إلا اشارة لعدم وجود ضوء اخضر من أميركا وروسيا، وكأنه يقول أن من سيعطيه الضوء الأخضر سيكون هو الحليف، في إشارة أخرى إلى أن قرار العملية وموعدها لم يحسم الا عند الجانب التركي.
ثمة معطيات يمكن أن تضيء على ما يمكن أن تلجأ اليه تركيا وذلك وفقاً لخصوصية كل منطقة، فواقع الحال يؤكد أن منطقتي عين عيسى وتل رفعت ربما كانتا أولوية تركية في الوقت الراهن، فهما تقعان تحت سيطرة النفوذ الروسي مما يجعل التفاوض مع بوتين الجريح فيه شيء من السهولة.
منطقة تل رفعت ذات الغالبية العربية، القريبة من الحدود التركية والتي تقع تحت النفوذ الروسي، وتتخذها ميليشيا قسد كقاعدة انطلاق لشن هجمات إرهابية تستهدف مناطق درع الفرات وغصن الزيتون والقواعد التركية في المنطقة، تعتبر سهلة المنال بالنسبة إلى تركيا لعدم أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لروسيا من جهة، ولأن مستجدات الحرب في أوكرانيا تجعل روسيا غير مهتمة بهذه البقعة الصغيرة إذا ما قوبل ذلك بمكسب سياسي بسيط من تركيا، فضلاً عن الوعود السابقة على لسان الرئيس التركي لأبناء هذه المناطق بتحريرها.
 في حين أن منطقة عين عيسى ذات الغالبية العربية ايضاً والتي تعتبر العاصمة السياسية لقسد، وتحظى بموقع استراتيجي هام جداً على الطريق الدولي "إم-4"، وتشكل عقدة طرق بين مناطق قسد في عين العرب والرقة والقامشلي والحسكة ومدينة منبج، وصولاً إلى حلب حيث تسيطر قوات ال"ب ي د" على حيي الأشرفية والشيخ مقصود، ومدفعيتها تطال مناطق النفوذ التركي في منطقة نبع السلام، ما يعني أنها ستكون في عين العاصفة التركية.
عين العرب المنطقة الحدودية ذات الغالبية الكردية، تحريرها بالنسبة إلى تركيا هو الأهم لسببين: أولهما أنها معقل أصيل من معاقل حزب العمال، وتشكل مصدر تهديد دائم بقصف مدفعي للبلدات التركية المحاذية للحدود (قرقميش)، والثاني أنها تعتبر صلة الوصل بين منطقة نبع السلام ودرع الفرات، إلا أن رمزيتها بالنسبة إلى واشنطن والتحالف الدولي كونها كانت بداية الانكسار لداعش في نهاية العام 2014، تجعل القيام بأي عمل عسكري نحوها يحتاج إلى تفاهمات كبيرة مع إدارة بايدن.
في حين يبقى وصول أنقرة إلى مدينة منبج منعطفاً شديد الأهمية نظراً لعدة اعتبارات هي أن تلك المنطقة ما تزال محتفظة ببنيتها التحتية وحيويتها التجارية والاقتصادية وقدرتها على استيعاب كمّ سكاني كبير، الأمر الذي يجعل واقعها متناغما مع الحاجة التركية إلى إعادة مئات الآلاف من اللاجئين، ولكن تبقى الكلمة الفصل لواشنطن وحدها كون المدينة تبدو خالية من الروس وقوات الأسد.
أمام هذا التشعب في المناطق من جهة، والأطراف المسيطرة عليها من جهة أخرى، لا يبدو أمام أنقرة سوى المفاضلة بين تلك المناطق من حيث المصالح الاستراتيجية لكل منها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها