الخميس 2022/04/21

آخر تحديث: 12:46 (بيروت)

الانتخابات الرئاسية الفرنسية: فوز لوبن ما زال وارداً

الانتخابات الرئاسية الفرنسية: فوز لوبن ما زال وارداً
increase حجم الخط decrease

يتجه الفرنسيون، يوم الأحد 24 نيسان/ أبريل 2022، إلى صناديق الاقتراع، لاختيار رئيسهم للسنوات الخمس المقبلة. وكانت الجولة الأولى من الانتخابات التي جرت، في 10 نيسان/ أبريل 2022، أفضت إلى تقدّم المرشحَين إيمانويل ماكرون، الرئيس الحالي، ومارين لوبين، مرشحة اليمين المتطرف، على بقية المرشحين الذين بلغ عددهم 12 مرشحة ومرشحًا. وكان لافتًا حصول ماكرون في الجولة الأولى على 27.85 في المئة من الأصوات، متقدمًا على ما أحرزه في الجولة الأولى من انتخابات 2017 (24.1 في المئة)، في حين حازت لوبين 23.15 في المئة من الأصوات في مقابل 21.30 في الدورة الأولى من انتخابات 2017. فما مؤشرات ذلك؟ وما دلالاته؟


الولاية الأولى ومواقف المرشّحين

اتسمت سنوات حكم إيمانويل ماكرون الخمس الماضية بالعديد من النقاط السلبية التي يمكن تسجيلها على مستوى إدارة الشأن الداخلي، وكذلك على مستوى التعامل مع الملفات الخارجية. في المقابل، واجهت فرنسا خلال هذه السنوات أيضًا عددًا من الأزمات العميقة التي لم تساعد ماكرون في تنفيذ برنامجه الانتخابي الذي حمله إلى السلطة. ومن أبرز هذه الأزمات احتجاجات "السترات الصفراء" التي بدأت في عام 2018، نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي مرت بها البلاد. وقد تعاملت الحكومة مع هذه احتجاجات ببرود شديد، رافقه عنف شرطي لم تشهده فرنسا منذ قمع الاحتجاجات الجزائرية، بداية ستينيات القرن الماضي، ثمّ قمع أحداث أيار/ مايو 1968 الطلابية. في المقابل، مثّل العنف والتخريب السمة الأبرز لحركة السترات الصفراء. إضافة إلى ذلك، آخذ المنتقدون الرئيس ماكرون بالسلبية التي اتسمت بها تصريحاته بشأن الوضع الاقتصادي الصعب لبعض فئات المجتمع. وقد وصل الأمر إلى اتهامه بالفردانية والتنمّر والسخرية من أوجاع الفقراء. ثم جاءت أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في نهاية عام 2019، وما ترتب عليها من توقف الحياة الاقتصادية، على الرغم من تمكّن الدولة الفرنسية عبر مساعدات سخية من تجنّب الركود والتضخم الذي أصاب دولًا أخرى. وأخيرًا، وقع الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022 الذي حاول ماكرون منعه ولم يفلح.

أما مارين لوبين، فسعت منذ فشلها في انتخابات 2017 لإدخال تعديلات أساسية على الخطاب الصادر عن اليمين المتطرف الذي ورثته عن أبيها جان ماري لوبين، في محاولة لاستقطاب مزيد من الأصوات، خاصة من يمين الوسط. فابتعدت عن التصريحات العنصرية التي تنم عن كراهية للأجانب كان يتسم بها خطاب حزبها، وذلك على الرغم من تجذّر الاقتناع بأهمية المتاجرة والتهويل بهذا الملف. وغابت أيضًا نهائيًا أيّ محاولة اشتهر بها والدها للتشكيك في وقوع الهولوكوست، والتي وضعته على القائمة السوداء للمنظمات اليهودية الفرنسية. وعلى العكس، فقد انفتحت مارين لوبين على هذه المنظمات والتزمت بالخطاب المعتمد فيما يخص هذا الملف. وقد ساعد في ذلك الأمر زيارة قامت بها إلى إسرائيل في حزيران/ يونيو 2017، حيث استُقبلت بحفاوة، تلتها عدة تصريحات مؤيدة للسياسات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة. وعلى الرغم من احتفاظها بعلاقات والدها مع عدد من القادة العرب وتعزيزها لها، فإن ذلك لم يحدّ من خطابها المعادي للعرب وللمسلمين في فرنسا؛ باعتبار أن قضاياهم لا تهم دولهم الأصلية كثيرًا.


الجولة الأولى والتصويت المفيد

حصل مرشح اليسار الراديكالي، جان لوك ميلانشون، مؤسس حركة "فرنسا الأبية" على أعلى نسبة تصويت منذ بدء ترشّحه إلى الانتخابات الرئاسية. وقد حل ثالثًا بنسبة 21.95 في المئة من الأصوات، وذلك على الرغم من تشتت أصوات اليسار الفرنسي في هذه الجولة بين ستة مرشحين. ويمكن تفسير ذلك على أساس قاعدة "التصويت المفيد" الذي ساهم بجلاء في وضع ميلانشون على قائمة المرشحين الثلاثة الأوائل. وقد ساد مفهوم التصويت المفيد على حساب مفهوم "التصويت الانتمائي"؛ فالناخب عمومًا اقترع لمن اعتقد أنه الأقدر على تخطي المرحلة الأولى، وذلك عوضًا عن الاقتراع للمرشح الذي ينتمي إلى فكره أو إلى حزبه أو إلى حركته السياسية. واستفاد ماكرون من هذا التصويت المفيد أيضًا، بجذب أصوات الاشتراكيين التقليديين وبعض أعضاء حزب الخضر والعديد من أعضاء حزب الجمهوريين اليميني التقليدي. ولم يحصل مرشحو كل هذه الأحزاب "التقليدية" إلا على نسب تقل عن 5 في المئة. فقد سجّلت آن هيدالغو، رئيسة بلدية باريس ومرشحة الحزب الاشتراكي الذي حكم فرنسا سنوات طويلة في النصف الثاني من القرن العشرين، أدنى نسبة في تاريخ الحزب بـحصولها على 1.75 في المئة من الأصوات. وأخيرًا، حصل الصحافي الجدلي، إريك زيمور، المرشح اليميني المتطرف الذي برز حديثًا في المشهد السياسي الفرنسي، وتبنى مسارًا أشدّ تطرفًا من مارين لوبين، معتمدًا على سردية ما اسماه "الإحلال الكبير" لسكان فرنسا "الأصليين" من جانب المسلمين والسود، على أقل مما توقعته استطلاعات الرأي له؛ إذ بلغت نسبته 7.07 في المئة من الأصوات. وكان هو أيضًا ضحية التصويت المفيد الذي ذهب بنسبة من ناخبيه إلى المرشحة لوبين؛ اعتقادًا من المتطرفين بأنها ذات الحظ الأكبر في تمثيل اليمين المتطرف. ويذهب البعض إلى القول بوجود اقتسام للأدوار بينهما؛ بحيث تظهر مارين لوبين بطريقة دبلوماسية أكثر في مقابل عنصرية زيمور المتطرفة.


يسار يتشرذم ويمين يتطرّف

أبرزت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات استمرار اليمين المتطرف الفرنسي في المنافسة الشديدة على منصب الرئاسة. وبدا أن الخطاب الجاذب لديه أضحى هو المرتبط أساسًا بمعاداة الهجرة والتخويف من انعدام الأمن والإشارة إلى مخاطر البقاء في الاتحاد الأوروبي، من خلال اعتباره مصدرًا لتمييع السيادة "الوطنية". وذلك على الرغم من تداوله مسألة تحسين القوة الشرائية درعًا مطلبيةً تخفّف من عدائيته للأجانب. ويبدو أن صعود اليمين الشعبوي والقومي في عدد من دول أوروبا، مثل النمسا وهنغاريا وبولندا، وفي الولايات المتحدة الأميركية كذلك، ساهم في تعزيز قناعة بعض الناخبين بأن مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية مرتبطة بقضايا الهجرة. ويبدو أن هذا الخطاب المعادي للمهاجرين والأجانب أخذ يتسرب إلى أحزاب الوسط واليمين التقليدي؛ فراح مرشحوها يستعيدون خطاب التطرف بعبارات أقل عنفًا، ولكن مؤداها مماثل. وحتى حركة "فرنسا إلى الأمام"، التي أسسها الرئيس ماكرون لخوض انتخابات 2017، فعلى الرغم من أنها جذبت إلى صفوفها ناخبين من اليمين واليسار، تبنت في بعضٍ من خطابها السياسي، كما في بعض تصريحات الرئيس نفسه، مفردات تحاكي تلك التي تستخدمها الأحزاب المتطرفة، والتي كان من النادر سابقًا ورودها في النصوص التي تصدر عن الأحزاب السياسية التقليدية في فرنسا. 

لقد صار من الطبيعي والسهل أن يتكرر الحديث عن الهجرة واللجوء، بسلبية وعدائية، وخصوصًا إثر وقوع بعض الأعمال الإرهابية التي سرعان ما تنسب إلى قادمين من خارج الحدود. وتشجّع أيضًا بعض المتطرفين من المسؤولين، والذين كانوا يخشون الإفصاح عن مواقفهم، على تبني خطاب رهاب الإسلام. واعتمد جزءٌ من الخطاب الرسمي الحكومي على دراسات أنجزها بعض الباحثين، الساعين بدورهم للفت انتباه وسائل الإعلام وكذلك لحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث استساغوا ربط كل سلبيات البلاد بالعنصر الأجنبي أو بالمسلمين الذين لم يتبنوا مبادئ "الجمهورية" على حد زعمهم. وتكررت الكتابات السلبية عن الضواحي الفقيرة، والتي وضعت سكانها في قوالب جاهزة تجهل، أو تتجاهل، الأسباب البنيوية الحقيقية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والإهمال التي تعانيها. وقد ساهم الإعلام اليميني في تعزيز الصورة السلبية للآخر وتضخيمها، من دون أي مسعى للبحث عن خطاب جامع. وفي حين اجترح اليمين المتطرف سابقًا تعبير "اليسار الإسلاموي" للحديث عن المثقفين الفرنسيين الذين يسعون لفهم أكثر موضوعية لما آلت إليه حالة بعض المناطق المهمشة والفقيرة في الجمهورية، والتي تقطنها نسبة كبيرة من المهاجرين أو من أصول مهاجرة، اتسع استعمال هذا المصطلح الإقصائي، وأصبح متداولًا في تصريحات مسؤولين حكوميين كبار مثل وزير التربية ووزيرة التعليم ووزير الداخلية. وقد التحق بهذا التيار أيضًا، لأسباب انتخابية، أعضاء من حزب الجمهوريين اليميني الديغولي المعتدل. 

أما قوى اليسار، فقد ساهم تشتتها أيضًا في توجه بعض خطاباتها إلى استخدام مصطلحات اليمين المتطرف. وقد أدى ذلك إلى توسع الخلافات والانشقاقات في صفوفها؛ إذ قاومت حركة فرنسا الأبية هذا التوجه حتى اتهمها أقرانها في الأحزاب اليسارية الأخرى بالتعاطف مع "الانفصاليين المسلمين"، وصولًا إلى اتهامها أحيانًا بالتعاطف مع "الإرهابيين". وعلى الرغم من أن زعيم الحركة، ميلانشون، تبنى مواقف مرتبكة إزاء أزمة أوكرانيا والعلاقة مع روسيا؛ فقد اعتبر أن مجرد العداء الأميركي والغربي لسياساتها يدفع به تلقائيًا للتضامن مع فلاديمير بوتين. وعلى الرغم من مواقف ميلانشون السلبية إلى حد بعيد من الثورات العربية التي ربطها بمؤامرات خارجية لها علاقة بإمبريالية متخيلة، فإنه حافظ بصلابة وجرأة على مواقف إيجابية من المكون العربي والمسلم في المشهد الفرنسي خصوصًا، متمسكًا بعلمانيته المنفتحة. ويعرف عنه مساندته القضية الفلسطينية بوضوح تسبب له في غضب المنظمات اليهودية الفرنسية المؤيدة للسياسات الاستعمارية والاستيطانية لسلطات الاحتلال الاسرائيلي. أما بقايا الحزب الشيوعي الفرنسي، والذي تراجع حضوره السياسي وقارب التلاشي، فقد انفك من تحالفه مع ميلانشون، والذي كان يمكن أن ينقله إلى الجولة الثانية بالتضافر مع أصوات الخضر على الأقل. 

فوز محتمل لليمين

من الصعب، في ظل الأجواء السائدة، التكهن بنتائج الجولة الثانية من الانتخابات لصالح الرئيس الحالي ماكرون الذي تقدم بنقاط قليلة في الجولة الأولى على مارين لوبين، منافسته اليمنية المتطرفة. وبعد أن كان الفارق المسجل في عام 2017 إثر الجولة الثانية كبيرًا نسبيًا، حيث حصل على 66.10 في المئة من الأصوات بينما حصلت لوبين على 33.90 في المئة، لكنّ السيناريو الأكثر تفاؤلًا هذا العام يعطي ماكرون فوزًا ضئيلًا للغاية ينقص بمقدار عشر نقاط عن الانتخابات السابقة. أما السيناريو المتشائم، فيطرح إمكانية وصول لوبين إلى الرئاسة بالاعتماد أساسًا على امتناع نسبة كبيرة من الناخبين غير الراضين عن القوى السياسية عمومًا، وكذلك أولئك الغاضبين من خسارة ميلانشون فرصته الأخيرة في منافسات الرئاسة. وجدير بالذكر أن ميلانشون كان الوحيد من بين الخاسرين غير المتطرفين يمينًا الذي لم يدع إلى الاقتراع لماكرون. واكتفى بأن وجّه بعدم التصويت للوبين. وقد اعتبر المراقبون بأن هذا الفراغ يمكن أن يُفسّر بأنه اقتراع غير مباشر لليمين المتطرف، تحقيقًا لقاعدة "الخراب المنظّم" للمشهد السياسي التقليدي بأكمله؛ ما يفسح المجال للدعوة إلى مقاومة اليمين المتطرف بشراسة طالما سعى لها ميلانشون عبر الاحتجاجات الجماهيرية والإضرابات لإعادة بناء المشهد السياسي الفرنسي.

وفي هذا السياق، دعا ماكرون من جهته إلى وقوف ما أسماه "الكتلة الجمهورية" في وجه تقدم اليمين المتطرف. وقد سبق أن حدث ذلك في انتخابات 2002 و2017؛ حيث خرج مئات الألوف من الفرنسيين بين الجولتين ضد احتمال وصول اليمين المتطرف إلى السلطة. أما اليوم، فلم تلق دعوات التظاهر للتنديد باحتمال وصول ممثلة اليمين المتطرف إلى الحكم آذانًا صاغية؛ إذ كان عدد المتظاهرين ضئيلًا للغاية في مجمل الأراضي الفرنسية. 

لقد أسهم الرئيس/ المرشح ماكرون، من خلال تبنيه لسياسات نيوليبرالية أهملت الطبقات الفقيرة، ومن خلال عدم الالتزام بوعوده المتعلقة بالمشكلات البيئية، وكذلك محاولاته التنافس مع خطاب اليمين الشعبوي في بعض الحالات، في تعزيز مواقع اليمين المتطرف واقترابه أكثر من أي وقت مضى من تحقيق حلم الوصول إلى الرئاسة. وساهم في ذلك أيَضًا ضعف اليمين التقليدي وتشتت اليسار التقليدي. وسيكون هذا الاحتمال قويًا، إن امتنع عدد مماثل من الذين لم يصوتوا في الجولة الأولى (نحو 25 في المئة من الناخبين)، إلا إذا قرر الفرنسيون صباح يوم 24 نيسان/ أبريل خلاف ذلك ومنع انحدار بلادهم في هذا الاتجاه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها