الإثنين 2022/04/18

آخر تحديث: 14:23 (بيروت)

موسكفا..الدرس الذي يرفضون تعلمه

الإثنين 2022/04/18
موسكفا..الدرس الذي يرفضون تعلمه
increase حجم الخط decrease
لنتفق أولا على أن الحقيقة هي أكبر ضحايا الحروب، وأن السرديات الروسية والأوكرانية والغربية للحرب على أوكرانيا هي على حد سواء خليط من إعلام ودعاية وحرب نفسية، جزء كبير منها متوقع وربما مشروع في سياق الصراع المسلح، ولكن، وبعيدا عن دعايات الحرب، والحقائق الكامنة تحت رماد الحرائق، فإن ما لدينا بعد نحو شهرين من الحرب هو عجز أو على الأقل مصاعب روسية جدية في تحقيق الاهداف العسكرية والسياسية على حد سواء. 
حسب التحليل العسكري الصرف والتصريحات الغربية وموازين القوى بين روسيا وأوكرانيا كان ينبغي لهذه الحرب ان تنتهي خلال أسبوع واحد، تسقط خلالها كييف ومدن رئيسية أخرى، وتتشكل حكومة موالية لموسكو، أو أن ترفع حكومة زيلنسكي على الأقل الراية البيضاء وتوافق على ما جاء الغزو لتحقيقه، وهو حياد أوكرانيا ونزع سلاحها وتفكيك التنظيمات القومية أو (النازية) كما تصفها روسيا، لكن وبدلا من ذلك، رأينا في اليوم الخمسين من الحرب الطراد موسكوفا وهو أهم سفن أسطول البحر الاسود الروسي يتفجر بصاروخين أوكرانيين، لتواجه موسكو الحقيقة المروعة، وهي تحييد أسطولها الذي عاد لقواعده،  بعد تحييد سلاحها الجوي الذي لم يسيطر أبدا على الأجواء الأوكرانية كما كان متوقعا.
لا يمكن أن نستهين بما فعله الأوكرانيون في هذه الحرب، وليس لأحد ان يقول أن الفضل كله للسلاح الغربي المتطور المتدفق، فهذا له دور جوهري، لكن الأهم من السلاح، اليد التي تحمله، وتقاتل به. السلاح لا يحتمل ذراعا مرتعشة، أو عقيدة مخذولة، أو افتقاد للايمان، حتى لو كان متقدما ونوعيا، ولئن تلقت كييف أسلحة غربية متقدمة، فإن روسيا هي اصلا مورد رئيسي وتاريخي للسلاح، وهي الخصم الأساسي للغرب وقد بنت عقيدتها وتسليحها لمقاتلة الناتو لا أوكرانيا، والأهم أن المساعدات الغربية لم تكن سرية، بل أعلنها الناتو بالصوت العالي بل وحدد تفصيلاتها وتكاليفها، ولم يبق سوى أن يحدد طرق مرورها.
في هذه الحرب، لم يكن هناك فرصة للمقارنة في مصادر القوة بين روسيا وأوكرانيا، فالاولى تتفوق في كل شيء، ولذلك تعاملت بغرور بالغ مع جارتها الفقيرة والمشاكسة، وربما ظلت أحداث عام 2014 عالقة في اذهان قائد الكرملين، حينما استولى بسهولة وسرعة على القرم وأجزاء من جمهوريتي دونتسك ولوغانسك، وربما ظن أن الامر سيتكرر من جديد هذه المرة، قبل أن يتفاجأ بشراسة المقاومة فضلا عن الوحدة الغربية غير المسبوقة والحرص على دعم أوكرانيا بأي ثمن.
هل للغرب غايات سياسية من ذلك تتعدى العنصر الاخلاقي الذي يدعيه؟، وهل يريد توريط روسيا في الفخ الاوكراني ولو على حساب اوكرانيا ذاتها؟ ربما، ولكن لا شك أبدا أن الاوكرانيين قاتلوا بشراسة وبسالة، وأن الروس فوجئوا بتصميم هذا البلد في الدفاع عن نفسه، بأي ثمن. لا يمكن إرجاع الامور إلى السلاح وحده، ففي أفغانستان بنت الولايات المتحدة جيشا ضخما من 350 ألف جندي، وانفقت عليه 83 مليار دولار منها 18 مليار دولار قيمة اسلحة ومعدات مختلفة، لكنه لم يصمد امام حركة طالبان أكثر من عشرة ايام، وتبخر بعد ذلك تاركا أسلحته بيد الحركة.
السلاح، يصبح فتاكا ومؤثرا، حينما يستخدمه مقاتل له ارادة استخدامه، ويحب قضيته بقدر ما يكره عدوه، هذا هو المعيار، الذي حقق الفارق المهم في حرب أوكرانيا، وخذل الروس، ليس لأنهم بلا قضية، لكن لأن الكرملين باشر بالغزو، باستعلاء وعنجهية وشعور غامر بالقوة والتفوق، فلم يضع خطة محكمة، ولم يجهز قواته نفسيا وتعبويا، ولم يهيء طرق الامداد والحاجات اللوجستية، ولم يقدر العواقب على الأرض، وفرص المقاومة، بل انه لم يستبق الغزو بحملة سياسية ودعائية ليحصن موقفه الدولي، وتعامل بالكثير من غياب الحكمة والبطء وعدم المهنية، ففقدت روسيا الهيبة وأسطورة الدولة العظمى منذ أول اسبوع، ثم بدأت بعد ذلك تفقد زمام المبادرة.
مشكلة الغزاة في كل أزماننا الحديثة بعد تشكيل الدولة الحديثة، أنهم يتوقعون أن فائض القوة بحوزتهم كاف لتحقيق الهيمنة والفوز، لكنهم يفاجئون في كل مرة بمقاومة تطرق على رؤوسهم وتستنزف قوتهم الاخلاقية والعسكرية والاقتصادية، وتؤثرعليهم في بلدانهم سياسيا واجتماعيا، دون ان يتعظوا، يتساوى في ذلك الطغاة من الديكتاتوريين والزعماء الديمقراطيين.
حملة جورح بوش الابن على افغانستان والعراق عامي 2001 و2003 على التوالي، كان يفترض أيضا أن تتم بسرعة وحسم وأن لا تواجه مشكلات عصيبة، ففارق القوة لا يقارن، واميركا كانت سيدة العالم وليس لاحد أن يعترض أو يتحفظ على انتقامها بعد هجمات أيلول/سبتمر 2001، لكنها بعد انجاز احتلال البلدين، بقيت 20 عاما في افغانستان وانسحبت خاوية اليدين بعدما انفقت نحو 2 تريليون دولار، وخسرت أكثر من 6 آلاف قتيل من الجنود والمتعاقدين الاميركيين ونحو 21 الف جريح، والأهم أنها لم تحقق أي هدف من أهداف الغزو، بل ان طالبان ذاتها عادت لتسيطر على افغانستان، ولولا وساطة قطروالاتفاق مع الحركة، ما كانت القوات الأميركية قد خرجت أصلا بشكل هادئ ودون خسائر.
نفس الشيء حصل في العراق، سوى أن اميركا رتبت انسحابها بعد ثمان سنوات فقط من الاحتلال، بعدما دفعت تكاليف ضخمة في القتال أمام المقاومة العراقية قدرت بنحو 5000 جندي، وانفاق أكثر من تريليون دولار، وفي النهاية قامت بتسليم العراق لإيران وترك المنطقة في فوضى شاملة. وفي الحالتين قتلت اميركا أو تسببت بقتل مئات الالاف من الأفغان والعراقيين، وخسرت جزءا اخر من روحها، وهيمنتها وهيبتها، بعدما كانت قبل ذلك قد رممت إلى حد ما تداعيات هزيمتها المنكرة في فييتنام.
الغزاة لا يتعلمون من بعضهم، ولا من تجاربهم. لم تتعلم روسيا من الدروس الاميركية، بل لم تتعلم حتى من دروس أسلافها السوفييت في التجربة المريرة بغزو أفغانستان، ولم تتعلم من العودة لفكرة المقاومة، حينما تبناها السوفييت وهم يتصدون طيلة أربع سنوات للغزو النازي خلال الحرب العالمية الثانية حتى قهروه ودخلوا برلين بعدما دفعوا 26 مليون قتيل.
المقاومون ينتصرون ولو بعد حين، هذا قدر مطلق، فكيف إذا كانوا يقاتلون على أعين الناتو تسليحا وتمويلا وتشجيعا وإمدادا بالمعلومات والخبرة، وتحت سمع العالم وبصره، وبدهاء اعلامي وعسكري لا يستهان به.
غرق الطراد موسكفا حدث عسكري متوقع في خضم حرب، لكنه أيضا جزء من سياق مقاومة ملفتة حقق فيها الأوكرانيون خرقا مهما لموازين القوة مع جارهم الشرقي الضخم اللدود، حتى أن وزير خارجيتهم ديمترو كوليبا اعتبر أن مصير المفاوضات مع روسيا بات يتعلق بالوضع على الأرض، بمعنى أن كييف لم تعد تقبل بما كان يمكن أن تقبل به في البداية، لأنها لم تعد تريد التخلص من هزيمة، بل باتت تبحث عن نصر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها