السبت 2022/10/15

آخر تحديث: 15:13 (بيروت)

سجن الزراعة..كدليل على اختراق النظام و"داعش"

سجن الزراعة..كدليل على اختراق النظام و"داعش"
increase حجم الخط decrease
ما تم نشره من مشاهد وصور عن سجن الزراعة في مدينة الباب، الذي كانت تديره أمنية "فرقة الحمزة" التابعة لـ"الجيش الوطني"، أظهر حقيقة هذا المعتقل باعتباره نموذجاً صارخاً عن معتقلات النظام و"داعش".

يمكن اعتبار صور هذا السجن، أحد الأدلة التي تؤكد نجاح النظام باختراق القوى العسكرية والمدنية في المناطق الخارجة عن سيطرته، منذ أن بدأ بالعمل على استعادة هذه المناطق عبر عملائه الذين زرعهم داخل مؤسسات الثورة، إذا لا يمكن تصوّر هذا المعتقل إلا كنتاج لتلاقٍ فكريّ مع النظام وداعش، حيث مثّل صورة متطابقة عن معتقلات هذين الطرفين، وهو ما أكدته شهادة العديد من المعتقلين السابقين في سجن الزراعة.

وتؤكد جريمة قتل الناشط محمد أبو غنوم وزوجته الحامل على يد عصابة الاغتيال التي كان يقودها أحد المسؤولين الأمنيين التابعين لفرقة الحمزة، غفلة قادة الفصائل عن هذا المخطط، مع ضرورة الإقرار بانحراف البعض منهم بالفعل، ما مكّن عملاء النظام الأمنيين، وكذلك خلايا تنظيم "داعش" من السيطرة، على الأقل على الجانب الأمني على العديد من تشكيلات المعارضة العسكرية، ومن هذا الجانب بدأ النخر في جميع المفاصل، لأن حال "فرقة الحمزة" يشبه حال فصائل أخرى تفاوتت فيها درجة الاختراقات.

لم يقتصر التغلغل الاستخباراتي للنظام والتنظيم على الجوانب الأمنية بالتأكيد، لكنه بدأ بها في الدرجة الأولى، ثم انتقل الى القطاعات العسكرية والإدارية مستفيداً من سيطرة الفساد والمحسوبيات والعلاقات الشخصية والعائلية والعشائرية على هذه المؤسسات، وهو فساد استشرى في جسد الفصائل المسيطرة على الشمال السوري.

ما من شك أن التحوّل المتسارع لقوى الثورة السورية نحو عسكرة الحراك الثوري كان بدايةً لبروز إشكاليات كثيرة باتت أكثر تفاقماً وسلبية مع مرور الزمن، مع التأكيد دائماً على أن النزوع إلى استخدام السلاح كان يهدف إلى غايات دفاعية في وجه العنف المفرط الذي لجأت إليه قوات الأسد منذ الأيام الأولى لانطلاقة الثورة السورية، وبطبيعة الحال لا تهدف هذه المقالة الوجيزة إلى مناقشة دور العسكرة في الثورة بقدر ما تريد الوقوف، ولو بإيجاز، عند الآليات والوسائل التي اتبعها نظام الأسد في مواجهة الأطراف المسلّحة في الثورة.

إن الحراك السلمي الذي حمل طابع الثورة الشعبية في معظم المحافظات كان الأكثر تأثيراً وإيلاماً لنظام الأسد، وكان واضحاً منذ انطلاقة هذا الحراك، سعي النظام إلى تشويه الوجه النضر لهذا الحراك، وإظهار الثوار بمظهر المتمرّدين والمخربين تارة، وبمظهر المأجورين بوصفهم أدوات وأذرعاً لمؤامرة خارجية تارة أخرى، تمهيداً لتصعيد العنف الذي وصل إلى درجة استخدام الجيش ومن ثم الطيران والأسلحة الفتاكة ذات السمة الإبادية في مواجهة المتظاهرين أولاً، وفي مواجهة الفصائل العسكرية التي تشكلت لاحقاً.

ولئن شهدت الأعوام الثلاثة الأولى من انطلاقة الثورة انحساراً وتقهقراً ميدانياً لقوات الأسد، فإنه منذ أواخر العام 2015، ومع التدخل الروسي المباشر في سوريا، استطاع نظام الأسد تغيير المعادلة على الأرض، إذ تمكن من استعادة معظم المدن والبلدات التي خرجت سابقاً عن سيطرته، وذلك بفضل الدعم الهائل من حلفائه الروس والإيرانيين، ومن ثم تمكّنت روسيا من تحصين تلك الانتصارات العسكرية وشرعنتها عبر تفاهمات إقليمية أنتجت مسار أستانا الذي حقق التفافاً على مسار جنيف، كما أفلح في إفراغ القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية من مضمونها الجوهري عبر اختزال العملية السياسية بلجنة دستورية مجهولة المصير.

ووفقاً للتفاهمات الدولية بين روسيا وشركائها، فقد بقي عدد من المدن والبلدات السورية خارج سيطرة نظام الأسد، مما جعل هذا الأمر مصدر تحدٍّ كبير لشرعية النظام الذي ظل أمام المجتمع الدولي عاجزاً عن بسط سيطرته على كافة الجغرافية السورية، إذا ليس بوسع أحد تجاهل أربع سلطات أمر واقع تتقاسم نفوذها على الأرض السورية، إحدى تلك السلطات هي تلك التي تبسط سيطرتها على مدن وبلدات الشمال السوري، وتشمل مدن أعزاز وجرابلس والباب وعفرين، إضافة إلى مدينتي تل أبيض ورأس العين، ويسيطر على تلك المدن ميدانياً الجيش الوطني الذي يعمل بالتنسيق المباشر مع الحكومة التركية، ومن الناحية الإدارية تتولى الحكومة المؤقتة إدارة تلك المدن والبلدات.

ولئن عجز نظام الأسد عن احتلال تلك المدن نتيجة تفاهمات أستانا، فإنه لم يعدم وسائل التخريب التي مكّنته من اختراق تلك المدن، ومن ثم العمل، ليس على تخريبها عمرانياً ومادياً فحسب، بل على التخريب المجتمعي لتلك المناطق عبر وسائل وآليات عمل مختلفة، ساعده على ذلك انعدام وسائل وآليات المقاومة في تلك المدن والبلدات، ما جعلها ضحية سهلة لما أراده لها الأسد، وفي ما يلي بعض مداخل التخريب الأسدي في مناطق الشمال السوري:

أولاً: شكلت الاختراقات الأمنية مدخلاً شديد السهولة مكّن نظام الأسد من التغلغل في عمق تلك المناطق ومن ثم العمل على إفسادها إجتماعياً وقيمياً ومادياً، وربما كان لعامل الجغرافيا الدور الكبير، نظراً لتلاصق التخوم الفاصلة بين مناطق سيطرة النظام ومناطق الجيش الوطني، أضف إلى ذلك البنية التنظيمية والإدارية الهشة لفصائل الجيش الوطني الذي يفتقر إلى الوحدة الفعلية للقيادة، كما يفتقر إلى جانب كبير من المهنية العسكرية التي غابت عنه نتيجة لتحييد الضباط المنشقين وأصحاب الكفاءات والخبرات، واعتماده بدلاً منهم قادة للفصائل يفتقر أكثرهم إلى أدنى درجات الخبرة العسكرية والأمنية، فضلاً عن افتقار العديد منهم للأخلاقيات الوطنية والثورية، الأمر الذي حوّلهم إلى أمراء حرب يتصارعون ويتطاحنون في ما بينهم لتحقيق مكاسب شخصية وجهوية لا ترقى إلى المستوى الوطني المطلوب.

ولا شك أن حالة العطب الأمني والفشل الإداري والتنظيمي كانت لها انعكاسات كارثية على حياة المواطنين الذي باتوا يفتقدون، في ظل سيطرة الفصائل المتناحرة، إلى أدنى درجات الأمان والطمأنينة والعيش الكريم، إذ بات مألوفاً أن تشهد تلك المدن العديد من عمليات التفجير للآليات المفخخة والاغتيالات والسطو على الممتلكات والاعتداء على الأرواح والأعراض، فضلاً عن انتشار المخدرات والاتجار بالحشيش وشيوع الرذيلة والجريمة في صفوف الناشئة.

ثانياً: إن قدرة نظام الأسد على اختراق البنى العسكرية للمعارضة كان يوازيه اختراق آخر للبنى المدنية المتمثلة بالمجالس المحلية والمؤسسات الخدمية والإدارية الأخرى، إذ تشهد هذه المؤسسات حالة من الفوضى أدّت إلى شل فاعليتها من جهة، كما عرفت وصول العديد من الأشخاص ممن يفتقرون إلى مقوّمات المسؤولية والقيادة إلى رأس تلك الكيانات من جهة ثانية، ولا شك أن ذلك سيترك الأثر السلبي الكبير على أدّاء تلك الكيانات من الناحية الوظيفية والمهنية.

ثالثاً: لعل السمة الأبرز لمنظومة الجيش الوطني هي غياب العقيدة الوطنية المشتركة، إذ إن الولاءات ما دون أو ما فوق الوطنية هي التي تتحكم بسلوك الفصائل وعناصرها، ذلك أن الكثير من الفصائل المنضوية في الجيش الوطني كانت سابقاً تتبنى إيديولوجيا دينية متطرفة، وبانخراطها في الجيش الوطني نتيجة لحسابات عسكرية أو أمنية أو سواها من دون مراجعات فكرية حقيقية تجرّدها من ولاءاتها القديمة، فإن أصحاب هذه الولاءات حاولوا فرضها على الآخرين ضمن الجيش الوطني.

رابعاً: إن افتقار الثورة السورية على العموم إلى قيادة سياسية منبثقة من الحراك الثوري وتحمل مشروعاً وطنياً تعمل بجدّ وإخلاص على تحقيقه، قد أسهم في فصل العرى بين المنظومة العسكرية والسياسة، ما جعل الجيش الوطني يعمل بإيحاء مباشر من الدول الراعية وليس بإيحاء من القرار الوطني النابع من المصلحة الوطنية السورية.

ما أظهرته الأحداث الأخيرة التي وقعت في مدينة الباب، وما تبعها من تجييش بعض الفصائل المحسوبة على الجيش الوطني لحماية القتلة والفاسدين، وما تلاها من معارك ودخول "هيئة تحرير الشام" الى منطقة عمليات "غصن الزيتون" لمؤازرة بعض تلك الفصائل، يؤكد حجم الاختراقات والتفاهمات المسبقة بينها وبين الهيئة، وبالتالي تعزيز القناعة بأن بين قوى الثورة من هو محسوب عليها لا أكثر، بل وعدو لها أحياناً.

كل ما سبق لا يمكن اعتباره صدفة، أو نتاج سيرورة طبيعية محكومة بقوانين علم الاجتماع، بل يجب أن يدفع لدراسة هذا الواقع وتفاصيله باعتباره إحدى نتائج تدخل النظام غير المباشر في المناطق الخارجة عن سيطرته، ومواجهة حقيقة أن هذا النظام مازال مصراً على استعادة الشمال المحرر بشتى الطرق، ولئن كان عاجزاً عن ذلك بالقوة، فإنه قد لجأ إلى الاختراق الأمني من خلال عملائه الذين يعملون جنباً إلى جنب مع أدواته المزروعة في جسد الثورة من أجل تحقيق هذا الهدف.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها