الثلاثاء 2022/01/11

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

الديكتاتوريات تتعلم من بعضها

الثلاثاء 2022/01/11
الديكتاتوريات تتعلم من بعضها
© Getty
increase حجم الخط decrease
تتشابه الديكتاتوريات في كل العالم، وتتعلم من بعضها، وكأن كل تلك السلطات الفاسدة قد تخرّجت من أكاديمية تعليم واحد، وتضع أعينها دائماً على كل ما يُساهم في دعم وجودها وثباتها وأبديتها، لتمارسه وتطبّقه في محيطها الجغرافي وبيئتها، بعد أن تؤقلمه ليتناسب مع الشروط الموضوعية لكل بلد.
ما جرى في كازاخستان قبل أيام، مشابه لما حدث في ثورة آذار/مارس 2011 في سوريا، وفي ثورة كانون الثاني/يناير 2011 في مصر، وكذا في حراك تشرين الأول/أكتوبر 2019 في العراق، وبعده بأيام في حراك شعبي مشابه في لبنان، وتطول القائمة.
في كازاخستان، خرج المتظاهرون يحتجون بثورة شعبية ضد الفساد، وضد سلطات نهبت كامل ثروات بلدهم، وطغمة سلبتهم إنسانيتهم وقمعت الحياة السياسية لعقود، ومن أجل حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الغائبة، فاتهمتهم هذه السلطات على الفور بالعمالة للخارج والمؤامرة، وبأنهم إسلاميون وإرهابيون، وعناصر مندسة جلبت الأسلحة من الخارج، رغم أنهم لم يرفعوا شعاراً واحداً إسلامياً أو قومياً أو غير وطني، وأمرت هذه السلطات الجيش بإطلاق النار عليهم دون إنذار.
ما حصل في كازاخستان يذكرنا كيف اتهم النظام السوري ملايين المتظاهرين السلميين الطامحين بالحرية والكرامة، بأنهم جزء من مؤامرة كونية ضدّه، وأنهم عملاء لقوى الشر، ومندسون وإرهابيون ومتطرفون، هدفهم تدمير النظام العتيد، وكسر محور الصمود، وتمزيق الأمة، ثم دسَّ بين المتظاهرين أزلامه من رجال الظلام ليطلقوا النار ليكون ذلك حجة للنظام ليضرب المتظاهرين بيد من حديد، واستمرت القصة على هذا المنوال لأكثر من عشرة أعوام حتى الآن.
ليس بعيداً عن سوريا، وقبلها في يناير 2011، حصل شيء مشابه في مصر، حين تجمهر مئات الآلاف من المصريين في ميدان التحرير، واتهمتهم سلطات الراحل حسني مبارك على الفور بأنهم يقومون بأكبر مؤامرة في تاريخ البلاد، وأنّهم حشاشون ومتحرشون ومجرمون ولصوص، ولم تتقبل هذه السلطات حقيقة أنّهم أبناء هذا البلد "الغلابة"، الذين أرهقهم فساد السلطة وشموليتها، والمحسوبيات والإفقار والتهميش، ولولا وقوف الشرطة على الحياد، لتدخّل الجيش وقام بما قام به النظام السوري فيما بعد.
كذا الأمر في أكتوبر 2019 في العراق، حين خرجت احتجاجات ثورية عفوية ووطنية، تجاوز فيه العراقيون أنفسهم وانقساماتهم الطائفية، في زخم بؤسهم ومعاناتهم، وانتهت بالتشكيك بأغراض هذه الاحتجاجات واعتبارها مجرد مؤامرة تقف وراءها مراكز وقوى ذات مصالح مختلفة ومعادية لمصالح الشعب العراقي، وأنها برعاية وتمويل من السفارات الغربية وبعض الأنظمة العربية.
بعدها بأيام، ورداً على الاحتجاجات التي أغلقت شوارع بيروت في لبنان، طالب فيها عشرات آلاف الشباب بمطالب شعبية وحياتية واجتماعية واقتصادية، اعتبرتها سلطات الأمر الواقع أنها مؤامرة خارجية لإضعاف تحالف 8 آذار الموالي لإيران في لبنان، وأنها امتداد للمؤامرة التي شهدها العراق، وأن دولاً ضد محور الممانعة تقف وراءها لإضعاف "أبطال" الممانعة.
أوجه التشابه والعوامل المشتركة كثيرة في تعامل الديكتاتوريات والسلطات الشمولية مع احتجاجات وثورات شعوبها، وكلها تشترك باتهام من يرفع الصوت بالعمالة للخارج قبل أن تُجري أي تحقيق ولو شكلي، فجميع هذه السلطات استخدمت مقولة المؤامرة والتدخل الخارجي والمندسين، كي تبرر قمعها العشوائي للمتظاهرين والمحتجين، أو عنفها المفرط في قتل المعارضين، أو استجلاب التدخل العسكري الخارجي لحلفائها، أو إعادة هيكلة الدساتير والقوانين بما يتلائم مع بقائها واستمرارها في السلطة دون أي تهديد.
مفهوم المؤامرة قديم العهد، لكنّ توسّع استخدامه في القرن الحادي والعشرين، خاصة عند الحديث عن أي ثورة أو احتجاج شعبي أو حتى تظاهرة في دولة شمولية، وصار نمط تفكير وذريعة رئيسة لكل الحكّام، وأسلوب تعامل مع المعارضين، ولتوسّعه كمنهج وانتشاره كعدوى بين السلطات الشمولية، الفاسدة والتمييزية والأمنية، وصار يمكن بناء فرع دراسة وبحث علمي حول هذا الموضوع في علوم السياسة والاجتماع والنفس.
تتمسك الأنظمة الشمولية بمفهوم المؤامرة في تفسيرها للثورات والاحتجاجات الشعبية، وتتناسى كلياً مفاهيم الظلم والقهر وانتقاص الحقوق التي ترافق الثورات، وتتناسى المبررات الإنسانية التي تفرض الثورات وتُفجّرها، كما تغض الطرف عن الظلم المادي والسياسي والاجتماعي والطبقي الذي تعاني منه الرعية في بلاد مُشبعة حتى التخمة بالفساد والنهب والتمييز والطائفية والانتهاكات والجرائم، بلاد تغيب فيها العدالة والحرية والمساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية والمواطنة.
قد يكون هناك اختراق في حراك هنا أو هناك، فالحرب خدعة في نهاية المطاف، وتتخذ أشكالاً عديدة، وقد يكون بينها مؤامرات ينفذها البشر لمصلحة فئات تقبع في الخفاء، لكن أن تُتهم الشعوب بالتآمر منذ ولادة أول تظاهرة أو احتجاج أو ثورة ضد السلطات الحاكمة الشمولية، ومن الدقائق الأولى، فهذا بلغة المنطق ينفي كلياً عن هذه الحركات صفة المؤامرة، ويؤكد الحقيقة الثورية لها، مهما اعتراها من نواقص وعيوب وأخطاء، بل ويشير إلى أن المؤامرة الحقيقية التي يجب الحديث عنها هي مؤامرة تلك السلطات الشمولية ضد الشعوب الباحثة عن دولة المواطنة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها