الجمعة 2021/03/12

آخر تحديث: 14:44 (بيروت)

رسائل الدم الروسية

رسائل الدم الروسية
increase حجم الخط decrease
في ظل صمت مطبق من جميع الأطراف عن القصف المتكرر لصهاريج نقل الوقود ومحطات تكرير النفط البدائية في مدينتي الباب وجرابلس في الريف الشمالي والشرقي لحلب الواقعتان في مناطق النفوذ التركي، وعدم صدور أي تصريحات من قبل الروس او النظام وعدم صدور أي ردة فعل او تصريح من الجانب التركي والغموض الذي اكتنف عمليات القصف للافتقار للمعلومات والأدوات التي يستطيع بها الجيش الوطني تحديد مصادر القصف والتعامل معه، كانت المعلومات شحيحة ومتضاربة عن نوعية الصواريخ ومصادر إطلاقها.
المعلومات العسكرية المتوفرة تشير الى إطلاق عدة صواريخ بالستية نوع "كليبر" من الفرقاطة الروسية في البحر المتوسط، وإطلاق صواريخ "توشكا" من النسخة الاولى مداها 70 كم وتعمل بنظام القصور الذاتي أو التوجيه الداخلي، وهي من النوع المنفلق (العنقودي) الذي ينفجر فوق الهدف على ارتفاع 16 متراً حتى ينشر أكبر عدد من الشظايا. هذا النوع من الصواريخ عادة ما يُستخدم ضد عناصر المشاة المكشوفة لتحقيق اكبر عدد من الإصابات، ومن المحتمل أنها أُطلقت من مطار كويرس العسكري باتجاه معبر الحمران الواصل بين مناطق قسد ومناطق المعارضة بالقرب من مدينة جرابلس الحدودية أو من كتيبة الصواريخ في جبل عزان في ريف حلب الجنوبي.
ولمعرفة حقيقة ما يجري ومحاولة الوقوف على الأسباب الحقيقية لهذه الهجمات المتكررة ودوافعها وما يترتب عليها من نتائج لا بد أولاً من معرفة الأهمية الاستراتيجية لمدينتي الباب وجرابلس.
مدينة الباب التي كانت تعتبر من أهم معاقل تنظيم "داعش"، لم يكن تحريرها في شباط/فبراير 2017 عادياً كباقي المدن والبلدات التي تحررت في عملية درع الفرات التي قادها الجيش الحر بتنسيق ودعم الجيش التركي الذي شارك فيها بالإضافة الى سلاح الطيران والمدفعية بقواته الخاصة. استبسل التنظيم الإرهابي لمنع وصول الجيش الحر إليها في الوقت الذي كان ينسحب أمام النظام وقسد دون أدنى مقاومة حيث حصل سباق محموم بين النظام وحلفائه وبين قسد والجيش الحر وحليفه التركي  للسيطرة على المدينة الاستراتيجية، انتهت بسيطرة الآخير بعد تقديم تضحيات جسام ارتقى فيها الكثير من الشهداء بينهم أكثر من ثلاثين جندياً تركياً، جرت بعدها تفاهمات روسية تركية ورسمت خطوط التماس عند حدود مدينة تادف على بعد كيلومتر واحد عن الطريق الدولي إم-4.
اكتسبت مدينة الباب أهمية خاصة كونها المدينة الأكبر في منطقة درع الفرات وفيها أكبر قاعدة تركية في جبل الشيخ عقيل بالإضافة إلى البنية التحتية الكبيرة التي أقامها الجانب التركي من مشافي ومدارس ومرافق عامة، وتقع على الطريق الدولي إم-4 الذي يصل مدينة الحسكة بشواطئ المتوسط مروراً بحلب، ويقع جزء من هذا الطريق الحيوي يُقدر بحوالي 18 كم تحت سيطرة الجيش الوطني.
أما مدينة جرابلس فهي الحاضرة الحدودية الأهم وتحظى بأهمية استراتيجية وأمنية بالنسبة للأمن القومي التركي، والتي وضعت قوات سورية الديمقراطية كل ثقلها العسكري للوصول إليها والسيطرة عليها، ووصلت إلى حدودها وسيطرت على القرى التابعة لها، الواقعة على الضفة الشرقية من نهر الفرات.
تكمن أهمية هاتين المدينتين جغرافياً وعسكرياً وأمنيا في كونهما البوابتين الاقتصاديتين بين المناطق المحررة وبين النظام وقسد. ومن هنا يمكننا الدخول في صلب الموضوع لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء تركيز القصف على تلك المناطق بالتحديد؟
النظام وحلفاؤه لم يتوقفوا طيلة السنوات الماضية عن زعزعة الاستقرار والأمن من خلال التفجيرات والاغتيالات والسيارات المفخخة عبر عملائهم من تنظيمي قسد و"داعش" وبعض العملاء المحليين، ألا إن القصف الصاروخي المباشر على تجمعات الصهاريج المخصصة لنقل الوقود في ترحين بالقرب من الباب والمصافي البدائية لتكرير النفط بالقرب من معبر الحمران مع قسد القريب من جرابلس يضعنا أمام احتمالات وتفسيرات متعددة.
أولاً، أن السبب الرئيسي للضربات الروسية على حراقات النفط في المناطق المحررة، اقتصادي بحت ناتج عن توقف قسد عن إمداد مناطق النظام بالنفط، فقد أوقفت الإدارة الذاتية بيع النفط إلى مناطق النظام السوري بشكل غير معلن منذ كانون الثاني/يناير بعد حدوث توتر بين الطرفين في الحسكة والقامشلي، على خلفية ضغوط النظام وروسيا على قسد في عين عيسى.
ثانيا، من الاحتمالات الأهم ـن المسالة مرتبطة بالطريق الدولي إم-4. فالطريق الدولي من مدينة منبج حتى قرية العريمة يقع تحت سيطرة قسد، ومن قرية أم شكيف الواقعة بين العريمة والباب وحتى مقابل تلة الشعالة التي توجد فيها قاعدة عسكرية للروس والنظام، هذه المسافة من الطريق التي تقدر ب18 كم تقع تحت سيطرة الجيش الوطني، وبالتالي تقطيع أوصال هذا الشريان الحيوي بالنسبة للنظام الذي يسعى وبدعم روسي للسيطرة على كامل الطريق للاستفادة منه في عمليات التبادل التجاري والاقتصادي بين مناطقه التي تئنّ تحت وطأة الجوع والفقر ونقص الوقود والحبوب والمواد الغذائية، وفتحه سيؤدي الى التخفيف من حدة الضائقة الاقتصادية والمعيشية في مناطقه، وهذا ما لا تعارضه تركيا وربما تغضّ الطرف عنه لولا أن ذلك سينعش اقتصاد قسد، وهذا ما يجعلنا نفهم لماذا عملت تركيا على ترك تلك القطعة من الطريق تحت سيطرة الجيش الحر عندما رسمت خطوط التماس في تلك المنطقة.
وبالتالي ما يحصل هو حرب مصالح اقتصادية ترمي روسيا من ورائها إلى تعطيل التجارة بين الإدارة الذاتية والمناطق المحررة والضغط على المعارضة لفتح الطرقات الدولية إم-4 وإم-5 لإنعاش الاقتصاد السوري المنهار والتي أصبحت روسيا عاجزة عن مساعدته، والتخفيف من أعباء الأزمة الخانقة التي يعاني منها وافتقاره الموارد المالية، فأصبح يشكل عبئاً كبيراً عليها بعد ان فشلت باستجرار الدعم الدولي لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
الولايات المتحدة التي زادت ضغوطها على النظام والروس وإيران وحزب الله اقتصادياً ومنعت بواخر النفط القادمة من إيران من الوصول الى موانئ النظام، وقصفت قافلات النفط التابعة للقاطرجي التي تنقل النفط من مناطق قسد الى مناطق النظام، جعلت خيارات الروس محدودة وعاجزة عن الرد على الأميركي شرق الفرات، فردت على السوريين في المناطق المحررة. هذا دليل على إفلاس روسيا التي أصبحت تستخدم السوريين كصندوق بريد لتوجيه رسائل للأخرين بأنها لن تسمح بالاستقرار وعودة دورة الحياة الاقتصادية في الشمال المحرر طالما لم يحصل ذلك في مناطق سيطرة النظام.
روسيا التي راهنت على إعادة الاعمار لحصاد ثمار عملياتها العسكرية سياسياً واقتصادياً تخشى انعكاسات الوضع الاقتصادي والمعيشي الذي يعاني منه المواطن السوري، وبدأت تتلمس غضباً شعبياً قد ينفجر في أي لحظة وبالتالي الخشية على وجودها وعلى قواعدها العسكرية غيرالمحمية بالقدر الكافي.
وما جولة لافروف إلى دول الخليج العربي إلا محاولة بائسة لإعادة النظام الى الجامعة العربية والمجتمع الدولي، والتخفيف من عزلته، والتقليل من آثار العقوبات والحصار السياسي والاقتصادي بعد عقوبات قيصر التي زادت الأزمات المعيشية والاقتصادية على نظام يعيش وضعاً اقتصادياً هو الأصعب منذ نشو الدولة السورية.
بالرغم من قراءة كل الاحتمالات الداخلية من وراء هذا التصعيد، لكننا لا يمكن أن نتجاهل أو نغفل العامل الخارجي وتشابك المصالح بين الدول الفاعلة في الملف السوري وفي مناطق أخرى، فالتفاهمات التي حصلت في ليبيا وحققت توازنات بين تركيا وقطر من جهة ومحور السعودية الإمارات مصر من جهة آخرى أخذةً بعين الاعتبار المصالح الغربية، لم تكن مرضيةً لروسيا.
السؤال الأهم الذي يُطرح هو: هل هذا التصعيد الذي جاء بعد أيام على انتهاء جولة أستانة هو ضمن تفاهمات غير معلنة بين الدول المعنية والتي لها مصلحة بإضعاف جميع الأطراف المتنازعة وتهيئتها لحل قد ينضج قريباً في المطابخ الدولية، أم خلافات بدأت تظهر على السطح؟ وهل ستسمح أميركا بخرق العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام من قبل حليفتها قوات سورية الديمقراطية التي عادت لتوريد النفط إلى النظام من خلال الاتفاق الذي رعته روسيا مؤخراً بين الطرفين؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها