الخميس 2019/05/02

آخر تحديث: 15:14 (بيروت)

فنزويلا:محاولة إنقلاب لا تسد فراغ السلطة وإنهيار الدولة

الخميس 2019/05/02
فنزويلا:محاولة إنقلاب لا تسد فراغ السلطة وإنهيار الدولة
Getty ©
increase حجم الخط decrease
صباح الثلاثاء في 30 نيسان/أبريل أمام القاعدة الجوية العسكرية في لا كارلوتا بالعاصمة الفنزويلية، اندلعت تظاهرات شارك فيها حوالي 3 آلف متظاهر لتأييد أبرز معارضي نيقولا مادورو، خوان غوايدو الذي نصّب نفسه رئيساً بالوكالة في 23 كانون الثاني/ يناير المنصرم. وغوايدو أعلن في شريط فيديو تأييد مجموعة جنود له في هذه القاعدة الجوية. ثم توجه إلى ساحة ألتاميرا، حيث تجمهر الفنزويليون حوله، وجُبهوا بالرصاص وسقط عشرات الجرحى منهم. ولكن ما عدد الجنود الذين انشقوا عن النظام في قاعدة كارلوتا لتأييد غوايدو؟

في تقرير نشرته صحيفة لوموند الفرنسية لاحظت الناشطة روشيو سان ميغيل، وهي متخصصة في الشؤون العسكرية، "غياب  اشارات الشقاق في الوحدات العسكرية الفنزويلية التي تملك قوة نارية فعلية يُعتد بها".  والسؤال هذا منذ أشهر هو شاغل الصحافة الاميركية، هل ينضم الجيش الفنزويلي الى الشعب؟ ويبدو ما حصل قبيل عيد العمال- وفصوله لم تنتهِ بعد- وثيق الصلة بمعلومات أفادت بوصول خبراء روس الى فنزويلا في نهاية مارس الماضي، وتحليق مقاتلتين روسيتين على متنهما حوالي 100 " مستشار عسكري"، فوق كاراكاس في 23 آذار الماضي.

خط أحمر أميركي جديد؟
ويرى خبراء كثر أن التدخل الخارجي بالغ الخطورة. والارجح أن تضطر إدارة ترامب، إذا ما حصل، إلى توجيه دفته. فإثر "عرض العضلات" الروسية في كاراكاس، أعلن مستشار الامن القومي الاميركي، جون بولتون، أن الولايات المتحدة تعتبر وصول قوات من خارج الدائرة الغربية كتهديد مباشر للمنطقة. وحذر ترامب مراراً من اعتقال غواديو أو إيذائه، ملوِّحاً برد "بارز" ومهدداً بالقول أن "الخيارات كلها على الطاولة". وعلى رغم تهديدات بولتون ووزير الخارجية الاميركي، مايك بومبيو، لم تسحب موسكو "مستشاريها" ولم تعدل عن دعم مادورو، "ربما، أملاً في استعادة شطر من المبالغ الكبيرة التي أقرضته إياها"، على قول افتتاحية نيويورك تايمز قبل شهر. ويرى خبراء أن ترامب يواجه في هذه الازمة "لحظة الخط الأحمر" الخاصة به، في إشارة الى اخفاق سلفه، باراك أوباما، في تنفيذ تهديداته للرئيس السوري، بشار الاسد، إثر خرق "الخط الأحمر الاميركي" حين شن الهجوم الكيماوي على الغوطة  الشرقية في آب (أغسطس) 2013.

الجيش الفنزويلي هجين
ولكن ماذا عن الجيش الفنزويلي؟ لاحظ استاذ العلوم السياسية خافيير كوراليس في مقالة نشرها قبل نحو شهرين في "نيويورك تايمز" أن الجيش الفنزويلي شأن الجيوش في الانظمة الاستبدادية هو شريان حياة النظام، ويقتضي إرساء الديموقراطية وسقوط النظام إبعاد الجيش عن مادورو. ولكن كوراليس ينبّه إلى أن القوات المسلحة الفنزويلية ليست جيشاً نظامياً تقليدياً  مهنياً وعمودي التنظيم والتراتبية. ففيه أجنحة لكل منها مصالح خاصة بها تقتضي بقاء النظام ودعمه. فإلى المؤسسة العسكرية التقليدية، وهي مؤلفة من جنود مهنيين محنكين، ثمة قوات غير تقليدية تضم في صفوفها جنوداً مؤدلجين يتعاونون مع القوات العسكرية الكوبية ومسؤولي الاستخبارات لإحكام الطوق على المعارضة. وفي صفوفهم جنرالات بيروقراطيون يمسكون بمقاليد شركات عامة. وإلى هؤلاء، يسعى كثيرون من الجنود وراء مصالحهم، ويجنون ثروات من عمليات التهريب في السوق السوداء، وبعضهم ضالع في تجارة المخدرات. وثمة فريق من القاتلين المأجورين مفوضين تصفية المعارضين. وفي ما يلي مقتطفات واسعة من مقالة كوراليس المرجعية:

قبل العام 2000، لم يكن الجيش الفنزويلي على هذه الحال من التذرر. فتنوع ألوان الجيش يسميه دارسو السياسة في أيامنا هذه "أوليغوبوليا العنف"، وقوامها تعريفاً تضافر قوى أفرقاء متنافسين وتعاونهم الى حد ما في احتكار وسائل القوة والعنف وقمع المعارضين. وفي فنزويلا يهيّمن على الأوليغوبوليا جنود مجرمون ومنفذو عمليات اغتيال، وهؤلاء صاروا أبرز أعلام حكم مادورو، والقوات هذه منقسمة الى مجموعتين: قوات العمليات الخاصة التي أنشئت في 2017 لمحاربة الجريمة ولكنها فعلياً مولجة تنفيذ عمليات تصفية سياسية في الأحياء الفقيرة، وقوات مسماة "كوليكتيفوس" وهم مدنيون مسلحون تمولهم الحكومة. وفي مطلع عقد الألفين، كان هؤلاء يتحدرون من قوات الاحتياط النظامية. ولكن جلّهم اليوم من الجانحين والبلطجية والسجناء السابقين. وهم مسلحون ملثمون يتدخلون على متن دراجات نارية لقمع التظاهرات وزرع الذعر في صفوف المشاركين.

عدالة انتقالية ولكن...
ويُتوقع أن تتعثر استراتيجية غوايدو أو أي استراتيجية سلمية لنزع سلاح النظام، بمشكلة استمالة المجموعات المسلحة هذه. ولكن غوايدو، الرئيس الانتقالي، قد يفلح في استمالة جنود كثيرين. فهو عرض على الجنود النظاميين وغير النظاميين عدالة انتقالية، وهي صنو العفو العام، ووعد بتنظيم انتخابات عادلة. لذا، بدأ جنود كثيرون بالانشقاق. ولكن جعبة غوايدو خاوية مما يجذب غلاة العقيدة التشافيزية والجنود المجرمين والكوليكتيفوس. ويُرجح أن يدعم غلاة الايديولوجيا التشافيزية مادورو من غير قيد أو شرط. والجنرالات الذين يجنون مكاسب كبيرة من النظام لن يستقطبهم العفو العام: فسقوط النظام يجردهم من مكانتهم وأرباحهم. والتعامل مع قوات الكوليكتيفوس بالغ العسر، فهم مذررون ولا تجمعهم إدارة مركزية ولا يملكون مصالح في شركات.

شراكة بين المدنيين والعسكر؟
وتتعذر دعوة الجيش المتشظي إلى الالتحاق بالحركة الديموقراطية من دون التعاون مع أبناء المؤسسة العسكرية،أي أولئك الذين يعرفون من يمسك بمقاليد المسلحين في صفوفهم، ومن يُلمّ بصفقات القوات المسلحة في قطاع الأعمال. قد لا يكون أمام غوايدو وحلفائه الدوليين غير إبرام شراكة انتقالية بين المدنيين والعسكر تعمل تحت جناح وصاية دولية. فيسعى هؤلاء الى العودة بالمؤسسة العسكرية الى سابق عهدها قوةً نظامية، ويسعون كذلك الى ضمان تماسك الجيش وتفادي انفراط عقده.

مرحلة انتقالية مضطربة
وتقتضي المرحلة الانتقالية الجمع بين القوة والمساومة، أي تقديم تنازلات لأقل الفئات العسكرية غير المنضبطة بقيود نظامية. والمساومات قوامها منح الجنود الساعين الى المكاسب والكوليكتفوس، فرصاً اقتصادية. ولن تجري عملية الانتقال من نظام عسكري الى نظام مدني بسلاسة بين ليلة وضحاها. فالمرحلة الانتقالية ستعمّها اضطرابات وفوضى. ولكن القبول بمثل هذه المرحلة أفضل من المراوحة الراهنة.

جوع بعد عزّ
سعى الباحثان مويزس (موسى) نعيم وفرانسيسكو تور الى فهم ما آلت فنزولا إليه اليوم من جوع وفوضى وانهيار في مقالة موسعة نشرتها فورين أفيرز في آب (أغسطس) العام الماضي، وقارنت بين حال دولتين في أميركا اللاتينية، الأولى من أقوى الديموقراطيات في المنطقة وأقدمها، وشبكة الأمان الاجتماعية فيها راسخة وأوسع من نظيرها في دول الجوار. وشارفت الدولة هذه على توفير الرعاية الصحية المجانية وتعليم عال ممتاز لجميع السكان. والدولة هذه نموذج الترقي الاجتماعي في المنطقة وهي قاطبة المهاجرين من أميركيا اللاتينية وأوروبا. والصحافة فيها حرة، والنظام السياسي مفتوح من غير قيود، والمنافسة بين الاحزاب تحتدم في الانتخابات، وتداول السلطة فيها سلمي. وهي نجت من الانظمة العسكرية التي أغرقت بعض دول اميركا اللاتينية في أتون الديكتاتورية، الخ...

ولكن عن أي دولة أميركية لاتينية يدور الكلام هو سؤال يرافق القارئ حين قراءة نحو صفحة ونيف من المقالة، إلى أن يُعلمه الكاتبان بأن هذا البلد ليس غير فنزويلا في السبعينات. أما اليوم فهي من افقر دول أميركا اللاتينية وفيها أجدد نظام ديكتاتوري في المنطقة. ومدارسها شبه مهجورة، ونظامها الصحي يتداعى جراء شح الاستثمار فيه والفساد والإهمال. وتتفشى فيها أوبئة سبق أن قضى هذا البلد عليها منذ وقت طويل، مثل الملاريا والحصبة. وفي ما خلا النخب، الطعام ليس في متناول معظم الناس. والعنف يجتاح البلاد، وفيها أعلى معدلات الجريمة في العالم، وهي مصدر اوسع موجات المهاجرين في المنطقة. وهي مركز تجارة المخدرات، ومعظم نخبها السياسية مُدان بالاتجار بالمخدرات في الولايات المتحدة. ومطارها شبه مهجور.

ولكن لماذا؟
يرى خبراء كثر أن تفسير الكارثة التي حلت بفنزويلا بسيط: في عهد تشافيز انزلق البلد الى الاشتراكية التي نجمت عنها كوارث كثيرة. ولكن كلاً من الارجنتين والبرازيل وتشيلي والاكوادور ونيكاراغوا والاوروغواي انتخبت حكومات اشتراكية في العقدين الاخيرين. وفي ما خلا نيكاراغوا، ازدهرت هذه الدول ولم تتداعَ ابنية الدولة فيها.

الاشتراكية بريئة
ولكن إذا لم تكن الاشتراكية هي المسؤولة عن المصير القاتم الذي انزلقت اليه فنزويلا، فيرجح مراقبون أنها لعنة أسعار النفط. فالأزمة الفنزويلية تزامنت مع هبوط اسعار النفط الدولي في 2014.ولكن الدول النفطية كلها ألمت بها صدمة هبوط اسعار النفط، غير أن أياً منها لم ينهر على ما حصل في فنزويلا. وهذا التفسير غير كافٍ لمقاربة أسباب الانهيار. فأفول فنزويلا بدأ قبل 4 عقود، وليس قبل 4 سنوات فحسب. وفي 2003، تقلّص الناتج الفردي في فنزويلا 37 في المئة قياساً على ما كان عليه في ذروته عام 1978. وهذا الهبوط هو أول العوامل التي كانت وراء بلوغ هوغو تشافيز الحكم.

وعبّدت أعوام من تراجع النمو الاقتصادي الطريق أمام تشافيز وإيديولوجيته البائتة لوضع اليد على السلطة وإرساء نظام استبدادي فاسد يحاكي النظام الكوبي. وعلى رغم أن الازمة سبقت وصول تشافيز الى السلطة، لا شك في أن إرثه ونفوذ كوبا هما محوريان في أي محاولة لفهم ما جرى.

تباين اجتماعي كبير
يذهب تفسير شائع كذلك إلى ان بروز تشافيز يعزى الى استياء الناخبين من زيادة هوة اللامساواة جراء الفساد. ولكن حين وصوله الى السلطة، كان توزيع الثروات الأكثر عدلاً في دول الجوار. وإذا كان غياب المساواة عاملاً حاسماً في مثل هذه النتيجة الانتخابية لرجحت كفة انتخاب أمثال تشافيز في البرازيل وتشيلي أو كولومبيا حيث هوة التباين الاجتماعي أوسع.

وإلى انهيار اسعار النفط في 1998 إلى 11 دولار للبرميل الواحد، ولجوء الحكومة الفنزويلية الى سياسات تقشف، كان تشافيز بارعاً في النفخ في مشاعر الاستياء التي عمّت الفنزويليين. وفي وجه فصاحته في التنديد بغياب المساواة والتهميش والفقر والفساد، لم تستطع نخبةٌ سياسية راسخة تفتقر إلى الكفاءة، وقف تقدمه. فنجح في استمالة الناخبين الذين يحنّون إلى أيام الازدهار.

تشافيز والتأميم الارتجالي
أصدر تشافيز قانون إصلاح سياسياً في 2001 من دون إعداد ومن دون استشارة او نقاش،  فتتت مزارع تجارية ضخمة، وسلّمت ملكية المزارع الى تعاونيات فلاحين تفتقر الى كفاءات ادارة وتشغيل مثل هذه المزارع الضخمة، ولا تملك رساميل تخول تمويل انتاج ضخم. فانهار الانتاج الغذائي. وانتهجت الحكومة التشافيزية مثل هذه السياسات التي تقوض قدرات البلاد في القطاعات كلها. فصادرت منشآت النفط الأجنبية ووهبتها الى موالين سياسيين يفتقرون إلى الخبرات التقنية لتشغيل المنشآت هذه. وأممت كاراكاس مرافق الخدمات ومنشآت تشغيل قطاع المواصلات، فعانت البلاد من نقص مزمن في التغذية الكهربائية والمائية، وصارت سرعة الانترنت من الأبطأ في العالم. وصادرت الحكومة التشافيزية شركات الفولاذ، فهبط انتاجها وتوقف تقريباً اليوم بعد أن كان يبلغ شهرياً قبل التأميم 480 ألف طن مربع. ومثل هذه النتائج ترتب مصادرة شركات الألومينيوم وشركات التعدين والفنادق وشركات الطيران.

طريق الحرير الصينية تمرّ في كاراكاس!
إفلاس فنزويلا وثيق الصلة بمشروع الرئيس الصيني، شي جينبينغ، الرامي الى توسيع نفوذ بلاده من طريق الديبلوماسية المالية. بعد سنوات قليلة على بلوغ تشافيز السلطة في 1999، زادت وتيرة القروض الصينية وتضخمت. والديون الصينية غير مرتبطة بإلزام المديون باحترام حقوق الانسان أو حماية البيئة ومكافحة الفساد. ولكن الاعفاء من القيود ترافق مع فوائد باهظة. واليوم ترفض الصين إعادة هيكلة الديون . والقروض مُنحت يوم كان سعر برميل النفط حوالى 100 دولار، على ما كان سعره بين 2007 و2014، ولكن مع هبوط اسعار النفط الى نحو 30 دولار للبرميل في كانون الثاني (يناير) 2016، تعاظمت خدمة الدين العام. وتضطر فنزويلا اليوم في سبيل تسديد الديون الصينية إلى شحن برميلين نفط إلى الصين مقابل كل برميل نصّ عليه الاتفاق الاولي. وفي الاثناء انهار الانتاج النفطي الفنزويلي، وتعذر على شركة "بيتروليوس دي فنزويلا" النفطية تسديد رواتب العاملين فيها وصيانة منشآتها، إثر هبوط اسعار النفط ومصادرة الحكومة ما تبقى من عائدات لتمويل "الثورة البوليفارية". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها