السبت 2019/03/16

آخر تحديث: 09:38 (بيروت)

كيف تكون لاجئاً وثائراً في آن معاً؟

السبت 2019/03/16
كيف تكون لاجئاً وثائراً في آن معاً؟
مهاجرون سوريون وسط الثلوج في طريقهم إلى ألمانيا (المدن - أرشيف)
increase حجم الخط decrease
يدرك السوريون اليوم أنهم كبروا ثمانية أعوام كاملة، وأن اختلافهم ازداد وتعمق، أطفال خرجوا من منظومة طلائع البعث وآخرون غرقوا فيها، شبان موزعون بين الموت على الجبهات، كل الجبهات، الموت في السجون، أو الغربة على تدرج ألوان قسوتها! نظام ممعن في القتل، ومعارضة يمزقها الارتهان والولاءات والتخوين والعداوة.

كيف كبرنا ثمانية أعوام؟ كيف دفعتنا خياراتنا للأمام من دون القدرة على العودة؟ كيف تفجرت الثورة في داخلنا كتحول كيميائي؟ لا يمكننا العودة إلى ما قبل عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام"، لا يمكننا أن نكون نفس الأشخاص بعد عبارة "شهيد تحت التعذيب" وبعد غزارة الهويات التي تتالى علينا ومنها اليوم هوية اللاجئين!

كيف تبقى دهشتنا بالعالم على القدر نفسه، ونحن نملك أحبة موزعين في الشتات حوله، نفاضل بين جمال مدينة وأخرى، صعوبة/سهولة لغة وأخرى، وحنيننا دائماً إلى أكثر أحياء سوريا عشوائية وإلى أبسط لهجاتها مما كنا نتدواله مع أهلنا وسكان أحيائنا؟

هذا اليوم يصلح فقط لإيقاظ بركان من وجوه غيبها حلمها بالحرية؛ أقرباء، أصدقاء، أحبة، أعداء سابقون، جيران، ناشطون تبادلنا معهم تحية أو اكتفينا بما سمعناه عنهم، ذاكرة من الوجوه والأصوات نظنها غابت ونظن أذهاننا سلتها وغفلت عنها، علينا أن نستسلم اليوم لشراسة استيقاظها بأدق ملامحها، لرعشة الخوف والحلم التي عرفناها قبل ثمانية أعوام من اليوم.

لقد "صنعنا ثورة"، وها نحن نلف العالم في محاولة لعرض ما صنعناه، لكن ما معنى أن نكون موزعين نتعلم عشرات اللغات ونبتعد كل يوم عن لغتنا، نتعلم قوانين بلدان العالم المتحضر حيث نلجأ، وبلدنا بلا قانون، نتمتع بما تتيحه دول اللجوء من حريات، وكل ما طلبناه في بلدنا كان الحرية! نكون مواطنين "عالميين" لأن العالم أغلق سفاراته وفتح بحاره في وجوهنا وجردنا من هويتنا.

من حق السوريين في ذكرى ثورتهم الثامنة أن يغضبوا، ويجاهروا بغضبهم. في برلين مثلاً، ننظر إلى أسماء ضحايا المحرقة منقوشة على مربعات معدنية ذهبية اللون موضوعة داخل الأرصفة، فيما صور ضحايا قيصر عالقة في رؤوس من نظر منا إليها، وصور بعضهم بكامل حيوتهم وألقهم عالقة في ذاكرة من لم يجرؤ من أهاليهم على البحث عن صورة فقيده بين الصور.

نحن نسعى للعدالة بكل ما أوتينا، نوثق أسماء شهدائنا، نتدرب على المهنية في نقل مواجعنا، نحشد لقضية نعلم أنها عادلة وعلينا إثبات عدالتها بطريقة ما، ليست عنفية ولا عاطفية ولا إقصائية ولا تطالب بتغيير النظام. نقبل تداول مصطلح "إعادة الإعمار" ونحن نعلم أنه ليس الحل، كيف يكون وبيوتنا التي نشأنا فيها لن تعود يوماً، أحياؤنا التي نحفظها ذهبت بكل تفاصيلها ووجوه ساكنيها، وكل ما بنينا عليه ذاكرتنا أحرق أو تم "تعفيشه"!

لا بد أن ثماني سنوات علمتنا أن الشعب السوري لم يكن يوماً "واحداً"، وأن تمايزنا الطائفي والسياسي لا يعني بالضرورة عداوة الآخر، وأن السؤال الواجب اليوم هو عما فرّق من اجتمعوا في 2011، وكيف يمكن البناء على اختلافنا، غضبنا، وحقنا الجلي بالحرية والكرامة، وفي أن ما حدث في 2011 كان وما زال ثورة، وأن مسؤولية رد التحولات عن الثورة واستعادة مسارها تقع في جزء منها على عاتقنا.

خلال الأيام الأخيرة، كانت لدينا الكثير من الحقائق لنفكر بها؛ المشاهد المربكة والمثيرة ربما للفوسفور يهطل على ريف حماه، لنتأكد أن النظام لن يتوانى عن القضاء على الثورة بالقضاء على آخر مدني في المناطق الخارجة عن سيطرته، ونحن هنا في منافينا نتابع مواقع التواصل بهوس توازيه حياة أقرب إلى الاستقرار، نتقلب في انقسامنا النفسي والفيزيائي، نتلمس حرجنا من التضامن الافتراضي، وثقل لاجدوى التضامن في شوارع وساحات المدن الغريبة التي توزعنا فيها حول العالم، ووقفنا أمام حقيقة سقوط العالم المتحضر بثقافته ومدنيته وتحرره وديمقراطيته أمام عيوننا المعلقة ببقايا مدننا وعوائلنا في موطننا الأصل!

صوت عمر الشغري المعتقل السابق على قناة CNN، يتحدث عن أدلة ارتكاب بشار الأسد للجرائم في سوريا، فيضع كل منا يده على قلبه وعلى ما في دواخل الناجين منا من الندوب. نتساءل إلى أين سينحدر العالم بعد، ولماذا تصمد أنظمة الفساد والترهيب في بلادنا؟ نتطلع إلى الجزائر والسودان بغبطة وغصة معاً، ونتساءل مراراً عن اليوم الذي سيسقط فيه الأسد إذا صدقنا أن سقوط الطغاة حقيقة تاريخية؟

صوت آمنة خولاني الواثق الهازئ في بروكسل، المتجاوز أقصى حدود "تمكين النساء" مما يشغل شطراً كبيراً من المجتمع الدولي، وهتافات أهالي درعا بحياة سوريا وسقوط الأسد فيما تمثال حافظ الأسد يجر إلى مسقط جديد.

لقد واجهت الثورة السورية أقسى المصائر التي قد تواجهها ثورة، عالم يبحث عن الأدلة من جهة، ويشارك في المقتلة بدوافع مختلفة وخلف أقنعة مختلفة من جهة أخرى، فيما نحن، أبناؤها، متآكلون ولاءات وعداوات وتخويناً ومزاودات وعجزاً. نكذب إن قلنا إن الشهداء والمعتقلين لا يغيبون عن أذهاننا، بلى يغيبون، والشتات السوري في دول الجوار السوري، التخوم الشرقية لأوروبا وقلبها، يدخلنا في دوامات اللاهوية، اللانتماء واللاهدف في بعض الأحيان، أو في دوامة إثبات الذات والابتعاد عن الثورة بقصدية أو من دونها في أحيان أخرى، لكن الحقيقة التي ننتهي إليها في أي دائرة مما سبق كنا، أن العالم الذي اختصرته الثورة لنا فضاق علينا بعدها، لا يمنحنا أوطاناً بديلة، وأن مصداقية الثورة حول العالم مرتبطة ليس فقط بما نضمره من انتماء معنوي للثورة، بل كذلك بما ننتويه، إن لم نقم به، من مراجعات لأدائنا الثوري ولاستعداداتنا لمعاودة التحرك بأدوات ومقاربات مختلفة.

هذا اليوم طازج جداً وقد يكون طويلاً جداً، لكن لا مكان فيه لرومانسيات ثورية، بل لمراجعات واثقة ومسؤولة، إن لم ترق لتليق بدماء الشهداء وعذابات المعتقلين والمهجرين، فلتلق بمرارة الاغتراب واللاوطن التي نعيشها وذلك أضعف الإيمان!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها