بعد انتخابات شكك كثيرون في نزاهتها وقاطعتها المعارضة الفنزويلية، أدى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، في 10 كانون الثاني/ يناير 2019، اليمين الدستورية لفترة رئاسية ثانية تدوم ست سنوات. وردّت المعارضة التي تسيطر على الجمعية الوطنية (البرلمان) بتأييد رئيس البرلمان خوان غوايدو كرئيس مؤقت للبلاد، والذي أدى اليمين الدستورية في 23 كانون الثاني/ يناير 2019، بعد أن اتهم مادورو باغتصاب السلطة. وتعهّد غوايدو بالسماح بدخول المعونات الإنسانية إلى فنزويلا التي تشهد أوضاعًا اقتصادية ومعيشية صعبة، وبالدعوة إلى انتخابات رئاسية جديدة. وقد عَدَّ مادورو ما جرى محاولة انقلابية تقف وراءها الولايات المتحدة الأميركية. وسرعان ما اتخذت دول عدّة مواقف من الأزمة، لا تستند إلى قضايا الشعب الفنزويلي التي يدور حولها الصراع، بل بناء على اعتبارات دولية جيوستراتيجية.
أين تقف واشنطن من الصراع؟
ما إن أعلن غوايدو نفسه رئيسًا، حتى سارعت واشنطن إلى الاعتراف بشرعيته. ويعد الاعتراف بنائب برلماني معارض، لا يحكم البلاد ولا يملك أي قوة فعلية، رئيسًا شرعيًّا هي خطوة جارفة غير مألوفة في العلاقات بين الدول. وهو ما عزّز الشكوك بوقوف واشنطن وراء محاولات تقويض سلطة مادورو، بالتعاون مع حكومات اليمين في كولومبيا والبرازيل. وقد اتخذت واشنطن على الأثر سلسلة إجراءات لتحقيق ذلك، أهمها:
الموقف الروسي - الصيني
ما إن تصاعدت حدة الأزمة السياسية في فنزويلا مع تمسك طرفي النزاع بمواقفهما، حتى تحولت إلى صراع جيوسياسي دولي، تنخرط فيه مباشرة الولايات المتحدة، من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، ولكل طرف حلفاؤه على ساحة أميركا اللاتينية ودوليًّا. وتحظى فنزويلا بأهمية كبرى لدى كل هذه الأطراف؛ فهي بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تُعدّ ضمن ساحة خلفية لا تسمح لأحد بالاقتراب منها. ووفق "مبدأ مونرو"، نسبة إلى الرئيس جيمس مونرو، الصادر عام 1823، فإن واشنطن لن تسمح لأي قوة بإنشاء مناطق نفوذ في القارتين الأميركيتين، الشمالية والجنوبية. وقد تدخلت واشنطن مرارًا في شؤون جيرانها في أميركا اللاتينية لتقويض أي نظام حكم يعارض سياستها في القارة، سواء أكان ديمقراطيًّا أم ديكتاتوريًّا.
وقد تضاعفت أهمية أميركا اللاتينية بالنسبة إلى الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب الباردة، خاصة بعد سقوط كوبا بيد الثوار الماركسيين الموالين للاتحاد السوفياتي عام 1959. وفي عام 1962، كادت مواجهة نووية أميركية – سوفياتية أن تندلع بسبب محاولة الاتحاد السوفياتي نصب صواريخ نووية متوسطة المدى في كوبا، تغطي معظم الأراضي الأميركية، وذلك ردًّا على مشاريع أميركية مماثلة في أوروبا تهدد الاتحاد السوفياتي. وقد احتفظت قوى اليسار بمواقع لها في القارة، ومنها فنزويلا، على الرغم سقوط الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات. فقد تمكن الرئيس الراحل، هوغو تشافيز، من الوصول إلى السلطة في انتخابات عام 1998. ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف محاولات واشنطن تغيير نظام الحكم في فنزويلا، بما في ذلك الانقلاب العسكري.
وفضلًا عن أن فنزويلا دولة مصدرة للنفط، تسعى واشنطن إلى منع روسيا والصين من امتلاك نفوذ لهما فيها، خصوصًا أن فنزويلا طورت على مدى العقدين الماضيين علاقات سياسية واقتصادية واستثمارية وعسكرية قوية مع الدولتين المنافستين للولايات المتحدة. وقد حطت قاذفتان حربيتان روسيتان قادرتان على حمل أسلحة نووية في فنزويلا أواخر عام 2018، في رسالة رأت فيها الولايات المتحدة تحديًّا روسيًّا لها.
بالنسبة إلى موسكو، تكتسي فنزويلا أهمية خاصة؛ نظرًا إلى موقعها المهم على مقربة من الولايات المتحدة. غير أن أهمية فنزويلا في الحسابات الروسية لا تقف عند هذا الحد؛ إذ ثمة حسابات إستراتيجية واقتصادية أكبر. فمن الناحية الإستراتيجية، ترى موسكو أن الثورات الشعبية، كما في أوكرانيا وسورية وفنزويلا، ما هي إلا أدوات أميركية لزعزعة استقرار الأنظمة التي ليست على توافق معها. ورأت موسكو أن الثورات الشعبية شكلت رأس حربة لتمدد الديمقراطية، التي تعتبرها نموذجًا غربيًّا في الحكم، إلى مناطق نفوذها المباشرة كما في المحاولات التي جرت في جورجيا وقرغيزيا وأوكرانيا. وعلاوة على ذلك، تملك روسيا محطة إلكترونية في القاعدة البحرية في أنطونيو دياز في لا أوركيلا، وهي جزيرة تقع شمال العاصمة الفنزويلية كاراكاس. وترى موسكو في هذا الوجود العسكري ورقة للضغط على واشنطن بشأن أوكرانيا.
اقتصاديًّا، تملك شركة روسنفت النفطية الروسية المملوكة للدولة حصة تساوي 50 في المئة تقريبًا في شركة سيتجو النفطية التابعة لشركة النفط الوطنية الفنزويلية. وثمة تقديرات تفيد بأن موسكو قدمت قروضًا وضمانات ائتمانية لفنزويلا، فضلًا عن أسلحة ومعدات عسكرية، بقيمة تراوح بين سبعة عشر وخمسة وعشرين مليار دولار، وهي مضمونة بعقود يتم تسديدها عبر دفعات مربوطة بالنفط.
أما الصين، فتشتري حوالى 240 ألف برميل نفط يوميًّا من فنزويلا، وقد ضخت فيها نحو 65 مليار دولار منذ عام 2008. كما ساعدت فنزويلا على إنشاء مصانع لتصنيع سيارات (شيري)، وهواتف (هواوي)، فضلًا عن بناء سكك الحديد وتحديث الموانئ الفنزويلية والبنى التحتية. وعلى المستوى العسكري، باعت الصين كميات كبيرة من المعدات إلى فنزويلا، بما في ذلك ناقلات جند مدرعة، إضافةً إلى رادارات دفاع جوي ومقاتلات وطائرات نقل عسكرية، وغير ذلك من المعدات والأسلحة. وللصين كذلك منشأة لتتبع الأقمار الصناعية في قاعدة كابيتان مانويل ريوس الجوية في غواريكو. وكما في حال روسيا، فإن أغلب الاستثمارات والصفقات الصينية - الفنزويلية هي على شكل قروض مضمونة بعقود موازية تسدد من عوائد النفط. وثمة شكوك حول موثوقية تسديد فنزويلا تلك القروض، إذا تمت إطاحة مادورو، وذلك على الرغم من عرض غوايدو التفاوض معهما لضمان حقوقهما.
موقف الجيش
اشتد التنافس الدولي على فنزويلا. لكن يبدو واضحًا أن قرار حسم الصراع في هذا البلد سيكون داخليًّا؛ فقد أصبحت المؤسسة العسكرية العامل الرئيس في حسم الصراع بين القوى المدنية الحاكمة والمعارضة، الذي وصل إلى نقطة اللاعودة واللاحسم. فكلاهما يرفض التراجع، ولا يقدر على حسم المعركة لصالحه في الوقت ذاته. وبينما يحاول غوايدو استمالة الجيش، يبدو أن مادورو ما زال يتمتع حتى الآن بدعم المؤسسة العسكرية والأمنية والقضاء، باستثناء انشقاقات بسيطة لا يُعتدّ بها. في حين يبدو الشارع منقسمًا؛ نتيجة سنوات من الأوضاع المعيشية الصعبة التي تسببت فيها سياسات مادورو الاقتصادية الفاشلة، إضافة إلى العقوبات المفروضة عليها. لقد بدأ عهد حكم شافيز بالعمل لصالح الفئات الفقيرة اقتصاديًّا وتمكينها وتعزيز مشاركتها السياسية. وما زالت هذه قواعد مادورو الاجتماعية، ولكنه خسر الطبقات الوسطى وجزءًا كبيرًا من الإنتلجنسيا. ومع تدهور مستوى المعيشة وتفشي الفساد وأعمال البلطجة، خسر قطاعات من الطبقات الفقيرة أيضًا.
وينظر إلى الجيش في فنزويلا باعتباره صاحب السلطة الفعلية في البلاد؛ إذ يبلغ تعداده أكثر من نصف مليون رجل، وهو يمسك بأكثر المؤسسات الحكومية، وله نصيب وافر من الوزارات التي يحتل أهمها ضباط متقاعدون، مثل وزارة رئاسة الجمهورية، ووزارات الدفاع، والداخلية، والعدل، والزراعة، والكهرباء، والنفط والغاز. لذلك ظلّ الجيش مواليًّا للسلطة، على الرغم من تردّي الوضع الاقتصادي في فنزويلا. وتجدر الإشارة أيضًا، إلى أن من يسيطر على الجيش اليوم هم الضباط الذين جاء بهم تشافيز بعد عام 1999، والذين وقفوا معه ضد محاولة الانقلاب عليه عام 2002. وأضحوا اليوم ذوي رتب عالية، وأي تغيير حاليًّا سيعني إحالة هؤلاء الضباط على التقاعد، وربما إلى محاكمات بقضايا متعلقة بمقتل متظاهرين. لكن هذا كله قد يتغير، إذا حشدت المعارضة ما يكفي لتغيير موازين القوى في الشارع، وإذا بدأت العقوبات الأميركية تؤثّر في المؤسسة العسكرية.
خاتمة
تتوقف نتيجة الصراع في فنزويلا على عوامل عدة؛ أهمها موازين القوى في الداخل، والتي سيكون للجيش دور حاسم في تحديدها، كما سيكون للعوامل الخارجية (الأميركي تحديدًا) دور مهمّ في ضوء سعي إدارة الرئيس ترامب إلى إنهاء النظام المعارض لمصالحها في فنزويلا. وتستثمر واشنطن في صعود قوى اليمين في عموم أميركا اللاتينية للإجهاز على ما تبقى من معارضة لها فيها. كما تستثمر في ضعف التأييد الدولي لنظام مادورو؛ إذ لا يتوقع أن تتجاوز روسيا والصين حدود الدعم السياسي والدبلوماسي لنظامه، في الوقت الذي سيجد فيه مادورو صعوبةً في الحفاظ على تماسك مؤسستي الجيش والأمن حوله، فضلًا عن توفير الحد الأدنى من المستلزمات المعيشية للشعب الفنزويلي، في ظل العقوبات الأميركية والغربية المفروضة على نظامه.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها