الجمعة 2018/08/31

آخر تحديث: 09:12 (بيروت)

الانقسام السوري حاضراً في رحيل ماكين وعنان

الجمعة 2018/08/31
الانقسام السوري حاضراً في رحيل ماكين وعنان
Getty ©
increase حجم الخط decrease
شهد الأسبوع الماضي رحيل شخصيتين دوليتين كان لهما حضور خاص في القضية السورية، وحاول كل منهما بحسب موقعه والمهام التي شغلها، تحديداً في المرحلة الأولى من عمر الثورة، أن يسهم في التوصل إلى حل سريع للصراع في سوريا، من منظورين مختلفين.

الجمهوري عضو مجلس الشيوخ الأميركي جون ماكين، والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، غادرا الحياة بعد صراع لم يدم طويلاً مع المرض، مخلفين وراءهما إرثاً حافلاً في العمل السياسي، يبقى الجزء الأهم منه بالنسبة للسوريين، تسمية عنان كأول مبعوث دولي  إلى سوريا في العام 2012، وتأييد ماكين الكامل للثورة السورية ولجميع ثورات الربيع العربي.

في الشأن السوري كما في توقيت الوفاة الذي جمعهما، كان قدر الراحلين أن يفشلا. ماكين فشل في إقناع الإدارة الأميركية باسقاط نظام الأسد بالقوة العسكرية، وعنان فشل في اقناع العالم بتبني خطته للحل السياسي.

ولا يمكن القول إنهما فشلا تماماً، بل يمكن الحديث عن حصول كل منهما على جائزة ترضية صغيرة. إذ استجابت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بشكل جزئي لمطالب ماكين، من خلال احداث برامج التسليح التي خصصت لـ"الجيش الحر"، ثم أوقفت لاحقاً. بالنسبة لعنان، فقد بقيت رؤيته السياسية للحل، التي تم أقرارها في مؤتمر جنيف الأول، قائمة حتى وفاته، وإن كان على الورق فقط.

استجابة لم تكن تلبي بأي حال تطلعات الرجلين وآمالهما، قبل أن يصمتا لاحقاً عن الحديث حول الملف السوري، عندما أيقنا على ما يبدو بأن رؤيتهما للحل لن تجد طريقاً للتطبيق.

ماكين المولود في العام 1936، والطيار السابق في سلاح البحرية الذي أصيب في حرب فيتنام وأُسِرَ هناك، آمن منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية أن إسقاط النظام لن يكون إلا بالقوة، وأراد باكراً أن تقود بلاده تحالفاً دولياً عسكرياً لاسقاطه، على غرار ما حصل في ليبيا ضد نظام العقيد معمر القذافي، ثم تنازل ليقبل بفرض حظر جوي فوق سوريا، يمنع طائرات النظام من المشاركة في الحرب ضد قوات المعارضة، التي كان قد نجح باقناع واشنطن وغيرها بمدها بالسلاح المطلوب. وفي تلك الفترة، وتأكيداً على ثقته بوجهة نظره المثيرة للجدل في بلاده، زار ماكين مدينة إعزاز شمالي حلب، والتقى قادة من "الجيش الحر" فيها عام 2013، ثم قبل لاحقاً بأقل من فرض حظر جوي، حين ألح على تزويد الفصائل الموثوقة بمضادات الطيران. مطلب عاد وأكد عليه عشية التدخل العسكري الروسي المباشر في المعركة عام 2015، لكن ذلك لم يتحقق. فتوقف ماكين بعد ذلك تقريباً عن الحديث في الشأن السوري.

ويبدو أن الغاني كوفي عنان، قد اقتنع مبكراً بعبثية الكلام حول القضية السورية، طالما أنه لم يجد اهتماماً جدياً من المجتمع الدولي بانجاز حل سياسي، لم يكن صعباً فرضه فيما لو أرادت الدول الكبرى ذلك، كما آمن. إلا أن خبرته ومعاناته في سبيل إصلاح مؤسسة الأمم المتحدة التي عمل بها منذ تخرجه حاملاً اجازة في الاقتصاد من جامعة جنيف عام 1962 حتى استقالته من منصب الأمين العام للمنظمة عام 2006، بدت أنها كافية لجعله يكف عن الخوض في القضية السورية، التي كانت تمثل له صورة مصغرة عن عجز المنظمة الدولية المزمن، بسبب انقسام وتنافس الدول الكبرى، وتجاهل الجميع للمبادىء والقيم التي أنشئت على أساسها.

وإذا كان طبيعياً أن يكون موقف النظام ومؤيديه من عنان وماكين، سلبياً بالمطلق، فإن اللافت أيضاً عدم اتفاق المعارضين على موقف تجاههما. فالانقسام كان ولا زال واضحاً في الحكم على الراجلين. وعلى الرغم من كل المواقف المعلنة والصريحة من جانب ماكين في تأييد الثورة، وعلى الرغم من جميع مساعيه الظاهرة لوضع حد لتفوق النظام العسكري ومعالجة ذلك بالقوة، التي رأى أنه لا بد منها من أجل وقف مجازر هذا النظام واجباره على الاستسلام، وعلى الرغم من أغلبية واضحة عبرت عن احترامها وشكرها له، إلا أن فريقاً مُعارضاً ظل مشككاً بماكين، بل واعتبر أنه كان جزء من المؤامرة الأميركية الغربية على سوريا بشكل عام، وعلى الثورة بشكل خاص.

الفريق الذي تسيطر عليه بدرجة كبيرة نظرية المؤامرة التقليدية، لا ترى في كل ما يفعله المسؤلون الغربيون تجاه الشعوب العربية والاسلامية، خاصة بعد ثورات الربيع العربي إلا تبادل مواقع، وتطبيقاً للعبة الكراسي الموسيقية. وبهذا، فأن دور ماكين لم يكن إلا جزءاً من هذه اللعبة في ما يتعلق بالثورة السورية، تقاسمها وزملاء آخرين له، كالنائب عن "الحزب الديموقراطي" وزير الخارجية في عهد أوباما جون كيري، والسفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد، الذين أسهمت تصريحاتهم ومواقفهم المنسجمة مع تصريحات الرئيس السابق باراك أوباما في العامين الأولين من عمر الثورة بإظهار الولايات المتحدة كداعم جدي لها، بينما عملياً لم تقم واشنطن وأذرعها في المنطقة سوى بتخريب هذه الثورة وتدمير سوريا كوطن.

ويأخذ ماكين عند هؤلاء الحصة الأكبر من التشكيك، بسبب تشجيعه على عسكرة الثورة وتحريضه المستمر على الحلول العسكرية، في الوقت الذي لم تُقدم فيه أميركا ما يسهم في انفاذ هذا الحل، الذي انقلب وبالاً على الثورة والشعب السوري، بسبب إطالة امد الصراع، واحتفاظ النظام بفارق القوة، وتقديم حلفائه دعماً غير محدود له، مقابل دعم هزيل للمعارضة العسكرية لم يسهم سوى في تقوية حضور المتطرفين، الذين ظل ماكين ينكر وجودهم بين المعارضة، ثم انتقل لتبرير هذا الوجود لاحقاً، حسب أصحاب وجهة النظر هذه.

شهادات كثيرة عن الراحل، نقلت عنه إصراره على احترام نتائج الديموقراطية في بلدان المنطقة، حتى لو جاءت بالاسلاميين إلى السلطة. وقد تمّ تسويق ذلك الإصرار ضمن سياق نظرية المؤامرة لدى تيار عربي عريض، خاصة نتيجة رفضه انقلاب الجنرال عبدالفتاح السيسي، على محمد مرسي، أول رئيس منتخب في تاريخ مصر.

وإذا كان من مجافاة الواقع انكار نظرية المؤامرة بالمطلق، والتي تعززت أكثر في ضوء السياسات الأميركية ونتائجها في المنطقة، فإنه ليس سهلاً وضع جون ماكين في الإطار نفسه، بالنظر إلى تاريخه السياسي بشكل شامل. النائب الجمهوري كان ومنذ انتخابه لعضوية الكونغرس عام 1983، أحد الأصوات المعارضة لكثير من سياسات الحزب الذي ينتمي إليه، وكثيراً ما صوت عكس إرادة الجمهوريين، خاصة في الملفات التي تتعلق بالمهاجرين والحريات العامة والمناخ والتجارة الحرة، وكان قد عارض بقوة إقامة سجن غوانتانامو واستخدام التعذيب لانتزاع اعترافات المتهمين بالارهاب، كما وقف عكس إرادة الحزب عندما قرر إلغاء قانون التأمين الصحي "أوباما كير"، ناهيك عن انتقاداته المستمرة لارتماء الجمهوريين في أحضان المحافظين واليمين المتطرف، كما دافع باستمرار عن ايمانه بالديموقراطية كحق للشعوب كافة.

ولا يمكن إلا تذكر خصومة ماكين العنيفة مع الرئيس دونالد ترامب، الذي لم يكف ماكين عن مهاجمته، خاصة في ما يتعلق بعلاقته مع روسيا، التي اعتبرها ماكين في مقابلة له مع شبكة التلفزيون الاسترالي في العام 2017: إنها "بقيادة فلاديمير بوتين أخطر على أميركا والغرب من داعش".

وإذا كانت هوية ماكين وانتماؤه للحزب الجمهوري سببان كافيان من وجهة نظر المشككين كي يحكموا عليه، فإن عدم الايمان بمنظمة الأمم المتحدة وقدرتها على تحقيق الأهداف السامية التي قامت من أجلها بشكل عام، ساهم بالدرجة الأولى في إصدار الحكم السلبي على كوفي عنان، في ما يتعلق بالدور الذي حاول لعبه في القضية السورية، من وجهة نظر فريق نظرية المؤامرة.

منذ الأيام الأولى لمباشرته المهمة كمبعوث أممي إلى سوريا، تلقى عنان انتقادات من المعارضة والنظام، واتهم من قبل كثيرين في الطرفين بعدم الحياد أو عدم المصداقية. اتهامات كانت تتصاعد بعد كل لقاء أو مؤتمر صحافي كان يعقده. بالنسبة للمنتقدين من المعارضة، كان على عنان أن يكون واضحاً في الوقوف مع الحق، وأن ينتصر بشكل صريح للضحية، وهو الشعب الثائر، ضد جلاده. مقاربات الراحل للمسألة السورية لم تكن مرضية لذلك الفريق، حتى وإن كانت مهمته كوسيط يبحث عن منافذ للحل وجمع الخصوم على نقاط اتفاق مشتركة، تتطلب منه ذلك.

فهل كان الأمر مجرد رد فعل عفوي من جانب ضحايا عنف النظام ووحشيته المفرطة أنهم لم يتقبلوا براغماتية عنان الدبلوماسي الدولي الذي جاء متسلحاً بتاريخ طويل من العمل السياسي، والتعامل مع النزاعات الكبرى التي كانت له مساهمة في حلها، كالحرب الدامية في دول يوغسلافيا السابقة، والمأساة التاريخية في راوندا وغيرها من دول افريقيا. أم أن هناك من ساهم في توجيه الرأي العام الثوري والمعارض ضد الرجل بهدف تقويض مهمته مبكراً؟

سؤال تبقى الإجابة عليه معلقة بالتأكيد، مثل السؤال عن حقيقة ودوافع مواقف جون ماكين وغيرهما من رجالات السياسة وقادة الدول الذين كان لهم حضور في القضية السورية منذ سبع سنوات ونصف، شهدت تقلبات وتحولات عنيفة أسهمت في إعادة توجيه مسار الأحداث في اتجاهات شتى، لم يمكن للمعارضة ولا النظام بطبيعة الحال القدرة على التحكم بها. لا بل أصبح الطرفان محكومين للقوى الأقليمية والدولية المتنافسة من أجل تحقيق مصالحها، من دون مراعاة لمصالح السوريين أنفسهم، الذين اكتفوا بإطلاق الأحكام كل من وجهة نظره.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها