الثلاثاء 2018/08/21

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

"تحرير الشام": نسخة سنيّة من "حزب الله"؟

الثلاثاء 2018/08/21
"تحرير الشام": نسخة سنيّة من "حزب الله"؟
الاندماج قد يكون مجرد تكتيك براغماتي (Getty)
increase حجم الخط decrease
في كل مرة يجري فيها الحديث عن مصير إدلب تعود إلى الواجهة قضية "هيئة تحرير الشام" باعتبارها القوة الجهادية الأكبر التي تسيطر على مناطق واسعة فيها، فتتجدد الدعوات من قبل أطراف معارضة لـ"الهيئة" كي تحلّ نفسها. إلا أن جعبة "تحرير الشام" لا تبدو خاوية تماماً من خيارات أخرى.

خيار الحلّ ترفضه "تحرير الشام" حتى الآن، وتقدم عوضاً عنه بدائل أخرى، شرعت بتنفيذ بعضها عملياً خلال الفترة الماضية، مع تصاعد تهديدات روسيا بقيادة هجوم واسع للنظام وحلفائه من أجل استعادة إدلب، وإعلان تركيا أنها لن تستطيع حماية المنطقة في ظل وجود "منظمات إرهابية".

"هيئة تحرير الشام" وغيرها من فصائل المنطقة أعلنت استعدادها للمواجهة المتوقعة مع النظام، وكان التوافق الوحيد بينها التأكيد بأن الروس يضعون "الهيئة" كذريعة للقضاء على جميع الفصائل في إدلب وريف حماة وغرب حلب.

كثيرون طالبوا "تحرير الشام" بحل نفسها وبدء عملية تفاوض مع الفصائل الأخرى للتوصل إلى حلول تسحب هذه الذريعة، وتساعد الحليف التركي على تقوية موقفه للاستمرار بتنفيذ التزاماته بحماية المنطقة. وتأتي في مقدمة الحلول التي تعرضها أطراف معارضة: أن تعلن "تحرير الشام" حلّ نفسها وتترك لكوادرها ومقاتليها حرية الانخراط في مؤسسات وفصائل المعارضة الأخرى التي يريدونها، أو أن تنضم إلى الكيانات العسكرية المشكلة حديثاً من اندماج وتحالف هذه الفصائل، مثل "الجبهة الوطنية للتحرير" أو "الجيش الوطني". مع كل ما يترتب على ذلك من التخلي عن اسم "الهيئة"، وتفكيك واجهات الحكم المدني التي أسستها في المناطق الواقعة تحت سيطرتها وفي مقدمتها "حكومة الانقاذ" و"مجالس الشورى" والمجالس المحلية التابعة لها، والخروج من المناطق السكنية وتسليم إدارة هذه المناطق للقوى المحلية.

خيارات لا يظهر حتى الآن أن "الهيئة" في وارد قبولها، رغم أنها شرعت فعلاً بتقديم بدائل من جانبها، ترى أنها تساعد على كسر الجمود، وتحافظ في الوقت نفسه على وجود التنظيم ومكتسباته. وفي الوقت الذي تتجاهل فيه قيادة "تحرير الشام" الحديث حول امكانية الاندماج بتكتلات الفصائل المعلن عنها مؤخراً، والتي تجمعها مع غالبيتها عداوات متجذرة، تبدو الرسائل غير المباشرة التي تصدر عن قادة فيها واضحة في رفض ذلك. مسؤولون شرعيون في "الهيئة" ركزوا خلال الأيام الماضية على رفض "الدعوة الوطنية"، مذكرين وبشكل لافت أن "الوطنية" من الكبائر المؤدية للكفر. موقف فقهي تتبناه وتتشدد فيه كما هو معلوم السلفية الجهادية، الأمر الذي يصح أن يكون مؤشراً معتبراً على رفض "تحرير الشام" خيار الاندماج مع أي جماعات وطنية أخرى.

في المقابل، أرسلت "الهيئة" رسائل غير مباشرة أعلنت فيها الاستعداد للتخلي عن الهيمنة على إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها، مقابل تقديم ضمانات بعدم استهدافها. وهو ما يمكن استنتاجه من خلال قيامها مؤخراً بحل مجالس شورى المدن والبلدات التابعة لها، وإعادة السلطة الإدارية فيها للمجالس المحلية. وبحسب قيادي رفيع في المعارضة العسكرية، فإن هذه الخطوة هي مجرد بداية ستتبعها خطوات أخرى أكبر، ترى "تحرير الشام" أنها ستساعد على تخفيف الاحتقان الشعبي ضدها في هذه المناطق، خاصة أن هذه الخطوات لا تشكل أي تهديد وجودي بالنسبة لها.

المعلومات التي كشف عنها القيادي المعارض لـ"المدن" تشير إلى تكثيف الاتصالات بين قيادة "تحرير الشام" وقادة الفصائل الأخرى في المنطقة، وكذلك مع الجانب التركي، بهدف التوصل إلى أفضل صيغة ممكنة لجميع الأطراف، بما يجنب إدلب والمناطق المحيطة فيها دماراً ومجزرة كبيرة يتهدداها في حال شن النظام وحلفاؤه هجوماً عليها. إلا أنه بالنسبة لتركيا وقوى المعارضة المتحالفة معها، لا يوجد أمام "هيئة تحرير" الشام سوى أن تعلن عن حلّ نفسها، وأن يختار قادتها وكوادرها، إما مغادرة المشهد السياسي بالكامل، أو الانخراط في تكتلات المعارضة العسكرية الأخرى.

وبحسب المعطيات، ستحاول قيادة "تحرير الشام" التمسك بأعلى سقف ممكن، وقد بدأت العمل على ذلك إعلامياً، من خلال إعادة التركيز في رسائلها على أن الهدف من الحملة على إدلب، أن حصلت، لن يكون "الهيئة" فقط، بل القضاء على آخر معاقل الثورة والمعارضة. ومع ذلك لن يكون بمقدور التنظيم مواجهة الضغوط الإعلامية والشعبية الكبيرة التي تطالبه بسحب الذريعة من الجانب الروسي طالما أن ذلك ممكن، من أجل تجنيب ثلاثة ملايين مدني يعيشون في إدلب ومحيطها، كارثة لن يكون لها مثيل في حل تعرضت المنطقة للهجوم بالفعل، وعجزت تركيا عن حمايتها بسبب وجود "الهيئة".

وعليه ستجد "تحرير الشام" نفسها أمام خيارين: إما التخلي عن كل المكتسبات والتحصن في مناطق وعرة ومغادرة المشهد إلى حين، أو القبول بالتخلي عن اسم التنظيم والدخول مكرهة في أحد التكتلات التي شكلتها فصائل المعارضة العسكرية الوطنية مؤخراً.

قد يبدو للكثيرين أن الخيار الثاني مستبعد تماماً، إذ لا يمكن لـ"هيئة تحرير الشام" بالنظر إلى أدبياتها الفكرية ورؤيتها الفقهية المعادية للدولة الوطنية أن تقبل بالانخراط في أي تجمع يقوم على ذلك. وبالنظر إلى التاريخ الطويل من البراغماتية التي عرفت بها قيادة "تحرير الشام"، وقدرتها على ايجاد مخارج في كل مرة تلجأ فيها إلى خيارات استثنائية، فإن قبولها بهذه الخطوة يجب ألا يشكل مفاجأة كبيرة إن حصل.

ولن تكون مشكلة قيادة "الهيئة" عند اختيار هذا الحل داخلية مع الجناح الشرعي في "الهيئة" أو الصقور المتبقين فيها، ولا حتى مع الفضاء السلفي الجهادي الذي تنتمي إليه. إذ يمكن لهذه القيادة أن تجادل أمام هؤلاء بوجود أمثلة للتأكيد على سلامة موقفها، مثل قبول "جماعة أنصار الدين" تشكيل تحالف متكامل مع "الجبهة الوطنية للتحرير" في مالي، وكذلك اعتماد "حركة طالبان" باستمرار "الدولة الوطنية" في خطابها السياسي. مثالان سيكونان كافيين داخلياً في النهاية. لكن المشكلة الحقيقية في خيار الاندماج، ستبقى بكل تأكيد مع الخارج، وفي كيفية اقناع الآخرين بأن مثل هذه الخطوة ليست مجرد تكتيك براغماتي جديد.

عملياً، قد يبقى قائماً خيار لجوء "تحرير الشام" إلى مناطق جبلية وعرة، والتحصن فيها ضد أي هجمات مع الابقاء على نفوذها في المناطق الحضرية التي ستنسحب منها عسكرياً. وستستفيد "تحرير الشام" في هذه الحالة بلا شك من تجربة فرع تنظيم "القاعدة" في اليمن، الذي قام فعلاً بالانسحاب من المناطق السكنية التي كان يسيطر عليها إلى الجبال المحيطة بها، وتسليم الإدارة فيها للقوى المدنية المحلية، بعد التوافق مع هذه القوى لتجنيبها تبعات الهجمات التي كانت تستهدفها وارتفعت وتيرتها خلال عمليات قوات "التحالف العربي" ابتداءاً من العام 2015.

احتمال ثالث لا يقل أهمية يظهر من متابعة "تحرير الشام" لتصوراتها عن نفسها، ودورها المحلي والإقليمي. لطالما راهنت "هيئة تحرير الشام"، ومنذ اللحظة الأولى لافتراقها عن تنظيم "الدولة الاسلامية" في العام 2013، على أن تكون في المستقبل نسخة سنيّة من "حزب الله" اللبناني. ولطالما كانت الاستراتيجية والتكتيكات التي اتبعها "حزب الله" منذ تأسيسه حتى اليوم، بما في ذلك تفاصيل العلاقة مع القوى المحلية والخارجية، محل دراسة "تحرير الشام" واهتمامها.

ولعل كل ما تأمله قيادة "تحرير الشام" اليوم هو أن تقبل تركيا بتبني هذه التجربة والتحالف مع "الهيئة" كما هو الحال في العلاقة بين "حزب الله" والنظام السوري. وترى "تحرير الشام" أن ذلك سيكون قادماً بكل حال، وأن الظروف ستجبر تركيا على ذلك، لمجاراة لجوء دول الجوار إلى اعتماد تنظيمات وقوى مسلحة تدعمها وتتبادل المصالح معها في الصراع والمنافسة على المنطقة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها