الثلاثاء 2018/08/14

آخر تحديث: 09:03 (بيروت)

رامي الدالاتي: إمساك العصا من المنتصف

الثلاثاء 2018/08/14
رامي الدالاتي: إمساك العصا من المنتصف
صورة مختصرة لمسيرة الحركة الاسلامية السورية خلال الثورة (انترنت)
increase حجم الخط decrease
عن عمر ناهز الخمسين عاماً، توفى الاثنين الناشط الاسلامي المعارض رامي الدالاتي، في مدينة إدلب، نتيجة تعرضه لنوبة قلبية، مخلفاً وراءه أرشيفاً من الجدل والخلافات داخل الحركة الإسلامية السورية، والذي كان أحد أبطاله الرئيسيين خلال السنوات السبع الماضية.

ولد الدالاتي في محافظة حمص في العام 1968، وحصل على دبلوم في "التعويضات السنيّة" من جامعة دمشق، ثم تابع تحصيله في العلوم الشرعية من جامعة أم درمان في السودان، حيث درس تفسير القرآن وعلوم الحديث في كلية أصول الدين. وبعد عودته إلى سوريا عُيّن خطيباً في أحد مساجد حمص، قبل أن يتم عزله من الخطابة من جانب السلطات الأمنية التي اعتقلته لمرات لاحقاً، كان آخرها في العام 2011 خلال عودته مع وفد وجهاء مدينة حمص الذي قابل بشار الأسد بداية الثورة، ثم أطلق سراحه لينخرط بشكل رسمي في مؤسسات المعارضة.

شغل الدالاتي منصب رئيس المكتب السياسي لـ"جيش التوحيد"، وهو تشكيل عسكري نشط في ريف حمص الشمالي، كما تم تعيينه ممثلاً عن المحافظة في "المجلس العسكري للجيش الحر"، المنصب الذي بقي فيه حتى العام الماضي، عندما جرت إقالته بسبب الخلاف حول موقفه من "هيئة تحرير الشام" التي طالما اعتبر الدالاتي من المدافعين عنها، الأمر الذي أثار حفيظة مختلف أطراف المعارضة ضده، وأدخله في سجالات مشهودة مع الكثيرين.

ويمكن القول إن سيرة رامي الدالاتي ومسيرته في العمل السياسي، تمثل صورة مختصرة لمسيرة الحركة الاسلامية السورية خلال الثورة، إذ واجهت هذه الحركة تعقيدات شديدة أظهرتها غالباً مضطربة ومتناقضة. وما بين البحث عن توافقات ونقاط التقاء، وما بين الخلافات المستعصية بين تياراتها ومع التيارات السياسية المعارضة الأخرى، كانت المحصلة احتراباً وخسارة لجميع الأطراف.

حاول الدالاتي، كما قال دائماً، أن يمسك العصا من المنتصف، وأن يسعى لتقريب المواقف ووجهات النظر بين مكونات المعارضة والتيارات الاسلامية، لكنه أقر غير مرة بالفشل "نتيجة التعنت أو عدم نضوج القيادات" حسب تعبيره في إحدى التغريدات تعليقاً على نشوب الاقتتال بين "هيئة تحرير الشام" و"حركة أحرار الشام الإسلامية" في العام 2017. لكن منتقديه يقولون "إن الدالاتي فشل بسبب تحيزه للهيئة في جميع الملفات الخلافية مع بقية الأطراف".

وفي الواقع، لا يمكن تبرئة الراحل من هذا الاتهام تماماً، إلا أن ذلك لا يعني أنه كان مؤيداً لـ"تحرير الشام" بشكل كامل. بالأحرى، يمكن تفهم مواقف الدالاتي وتصريحاته بهذا الخصوص من زاوية السعي لعدم خسارة "الهيئة" نهائياً والتعامل معها كعدو حتمي، وهو سعي لم يكن الدالاتي وحيداً في مضماره، بل تكاد أن تكون اشتركت فيه معظم قوى الثورة والمعارضة، التي حاولت استيعاب هذا الفصيل القادم من المدرسة السلفية الجهادية، والعمل على احتوائه، على أمل أن يغني ذلك عن المواجهة معه.

وقد تباينت طاقات كل طرف في هذا المسعى، إذ وبينما أعلن البعض عبثية المحاولة مبكراً، تابع قسم ثان السعي ثم استسلم مع تكرار الهجمات التي كانت تشنها "هيئة تحرير الشام" بمسمياتها المختلفة، قبل وبعد إعلانها فك الارتباط بـ"تنظيم القاعدة" عام 2016. بينما تميز البعض بطول أناة، مثل رامي الدالاتي، الذي حافظ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة على هذا الأمل، ودافع عن خياره بقوة في جميع المناسبات.

ومن أجل ذلك، أو بسبب ذلك، دخل الراحل في صدامات كثيرة مع مؤسسات وقيادات وشخصيات بارزة في المعارضة السورية، وجرت سجالات عديدة بينه وبين الكثيرين، حصل في بعض الأحيان أن تعدت الفكري والسياسي إلى الشخصي، فكان أن وجهت إليه اتهامات بالسعي لتحقيق مكاسب من وراء علاقته بـ"هيئة تحرير الشام"، وكذلك خلال شغله مناصب رسمية في بعض المواقع. بينما ركز الدالاتي، الذي سخر من هذه الاتهامات دائماً، الهجوم من ناحيته على عدد من الشخصيات البارزة في الحركة الاسلامية المناهضة لـ"الهيئة"، واتهمهم بالاستخفاف بدماء مقاتلي الفصائل والسعي لتحقيق طموحاتهم أو الانتقام لذواتهم على حساب تأجيج الخلافات واشعال الصراعات بين "الهيئة" وبقية الفصائل.

لكن أكثر من كان عرضة لانتقاد وهجوم الدالاتي هو "المجلس الاسلامي السوري"، الذي طالما اعتبره مؤسسة شكلية في الثورة السورية، تنقصها الشرعية وتفتقد التأثير والفاعلية بسبب عملها من خارج الحدود، واكتفائها باصدار البيانات وتضخيم أخطاء "هيئة تحرير الشام" حسب تعبيره في غير مرة. آخر تغريداته في "تويتر"، كانت رداً على مطالبة أحد أعضاء "المجلس" لـ"هيئة تحرير الشام" بأن تحل نفسها، بمطالبة "المجلس الاسلامي السوري" بحل نفسه هو، أو الدخول إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والتحاور مع "الهيئة".

عملياً يوجد بين خصوم الدالاتي كثيرون ممن يتفهمون مواقفه، رغم أنهم يصفون العديد من هذه المواقف والتصريحات بأنها مستفزة، خاصة تلك التي كانت قد صدرت خلال بعض الهجمات التي سبق وشنتها "هيئة تحرير الشام" على الفصائل الأخرى، وكان فيها تحميل المسؤولية بشكل مباشرأوغيرمباشر من جانبه  لهذه الفصائل، أو على الأقل، المساواة بين الضحية والجلاد. وما يحسب له إصراره على طرح آرائه والتمسك بها، رغم كل الضغوط والانتقادات التي كان يتعرض لها.

إلا أن علاقة الرجل لم تكن سلبية على الدوام مع المختلفين، بل ساهم بعمليات التوسط والتفاوض بين "هيئة تحرير الشام" والأطراف الأخرى، ونجح في أحيان أخرى بإطلاق سراح العديد من المعتقلين لدى "الهيئة" من مقاتلي وقادة "الجيش الحر" والقوى الإسلامية، ومنهم أحمد الخولي، القيادي في "حركة حزم" المنحلة، والذي ظل معتقلاً لدى الهيئة منذ العام 2015، وأبو عزام سراقب القيادي في "حركة أحرار الشام".

بدورها استفادت "الهيئة" من دون شك من مواقف رامي الدالاتي تجاهها، حيث ساهم ومعه العديد من الشخصيات المستقلة في المعارضة الاسلامية بالتخفيف من حدة العداء والاحتقان تجاهها، وسعى جاهداً إلى دفع تهمة التطرف والغلو عنها، والتأكيد على امكانية أن تكون شريكاً للسوريين بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية، وهي من أكثر النقاط إثارة للجدل.

لكن من أين كان يأتي الدالاتي بكل هذا التفاؤل، وعلى أي أسس كان يبني مواقفه؟

طبعاً يمكن رد ذلك إلى شخصية الدالاتي ذاتها التي تتميز، حسب المقربين منه، بالهدوء ومهارات الجدل والاقناع، أو ربما كان يأمل بحكم انتمائه الفكري الاسلامي، بنجاح أي قوة إسلامية، بغض النظر عن التباينات أو الخلافات معها، وربما بدا له أن هذا ممكناً في النهاية مع أو بقيادة "هيئة تحرير الشام"، باعتبارها الطرف الأقوى والأكثر تماسكاً بين هذه القوى، إلا أن كل ذلك يبقى مقاربات لا تغني عن قراءة الدالاتي داخل السياق الذي كوّن شخصيته الفكرية والسياسية قبل الثورة، أو على الأقل أثر بها.

لا توجد معطيات يمكن أن تعتبر مصادر في هذا الصدد، وهو أمر طبيعي بالنسبة لشخصية لم يسعفها العمر ولا الظرف على تجاوز عتبة النشاط وبدايات البحث، إلى الحد الذي يجعل منه مفكراً أو شخصية عامة يمكن دراستها وتتبع كل التفاصيل حولها، إلا أن تصريحات رامي الدالاتي نفسه، وبعض النقاشات التي كان يخوضها يمكن أن تشكل مؤشرات على ذلك.

فإلى جانب انتمائه لأسرة معروفة بكثرة المشايخ وعلماء الدين من مختلف المدارس الاسلامية في حمص، عبر الدالاتي في مرات متعددة عن اعجابه الشديد بتيار الاخوان الدمشقي، وهو أحد التيارات التي انقسمت إليها "الجماعة" في سوريا حتى ما قبل صدامها مع النظام نهاية سبعينيات القرن الماضي، وكذلك تبنيه إرث المدرسة السلفية الشامية، وهما تياران يعتبران الأكثر انفتاحاً داخل فضائهما، ليس حيال التيارات الإسلامية الأخرى وحسب، بل وحيال مختلف التيارات السياسية ومكونات المجتمع السوري الأخرى، على عكس تيار الاخوان الحموي والسلفية الخليجية، اللذين انتج تزاوجهما، حسب الدالاتي وغيره، السلفية الجهادية.

من هنا يمكن فهم دينامية الرجل واستعدادته للتعاطي مع كل المتناقضات دون أن يرى في ذلك تناقضاً. ولعل هذا ما جعله يؤجل نشر شهادته عن الثورة السورية التي وعد أن تكون جاهزة في الوقت المناسب للصدور في كتاب يكشف عن الكثير من الملابسات والتفاصيل التي شهدها، إلا أنه رحل قبل أن يقوم بهذا العمل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها