الجمعة 2018/06/01

آخر تحديث: 18:38 (بيروت)

حين تنقلب الرأسمالية على ليبراليتها: أميركا أولاً

الجمعة 2018/06/01
حين تنقلب الرأسمالية على ليبراليتها: أميركا أولاً
انتصار الرأسمالية في دولة واحدة (Getty)
increase حجم الخط decrease
تبدو الأزمة العالمية اليوم، مع الحرب الإقتصادية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليل الخميس/الجمعة، سبباً إضافياً لتداعي النظام العالمي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية. وبدلاً من مواكبة السياسة للاقتصاد، تبدو خطوة ترامب الأخيرة، انتقاماً سياسياً من الاقتصاد العالمي، وعودة بالزمن إلى ما قبل العام 1914.

المشكلة التي رافقت المنظومة العالمية منذ انهيار جدار برلين، كانت في انعدام التناسق بين عالم ينمو ككتلة اقتصادية واحدة، وبين المنظومة السياسية العالمية. فلطالما ماطلت المنظومات السياسية في التوحد، رغم انتصار الليبرالية، وفضلت التقدم في خطوات اندماجية اقتصادية، ظلت الإرادة السياسية تنقصها. توحيد العملة في أوروبا، والسوق الموحدة، ظلت أهم ملامح الإتحاد الأوروبي، في حين حفلت دوله بالتناقضات السياسية الداخلية، وليس آخرها خروج بريطانيا المدوي، وصعود أول حكومة شعبوية في إيطاليا. منظمات تجارية كبرى، كتلك التي في شمال القارة الأميركية "نافتا"، لم تتمكن من التقريب بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، سياسياً. كندا، كانت صاحبة الرد الأسرع والأعنف على قرار ترامب بفرض رسوم جمركية إضافية على مستورَدات الحديد والألمنيوم.

الضرائب الحمائية المتبادلة بين أميركا وحلفائها، والعقوبات على أعدائها، وعدا عن إعلانها نهاية دور "منظمة التجارة العالمية"، هي تقويض رئيسي لقواعد التجارة الحرة، عمق الاقتصاد الرأسمالي.

قراءة شعار حملة ترامب الانتخابية "أميركا أولاً"، تبدو اليوم ضرورية بأثر مرتجع؛ تنصل أميركي من كل الاتفاقات العالمية، حتى مع أقرب حلفائها. تراجع الولايات المتحدة عن دورها كمؤسس للنظام العالمي الراهن، هو انقلاب عليه، لا سياسياً فحسب، بل اقتصادياً أيضاً. السؤال الأهم، في هذه اللحظة: متى لم تكن أميركا أولاً، منذ بروزها كقوة عظمى مع نهاية الحرب الثانية؟

التنصل الأميركي من المنظومة العالمية، بكل مؤسساتها؛ الأمم المتحدة، والناتو، والتجارة العالمية، وغيرها، هو انقلاب على الليبرالية، لصالح الرأسمالية. فهل يمكن هنا الحديث عن انتصار الرأسمالية في دولة واحدة!

ولمنتهى الغرابة، باتت الرأسمالية، لحظة انقلابها على محتواها الليبرالي، قوة محافظة، رجعية. قوة تشد الكوكب برمته إلى الخلف، بعدما كان واضحاً، في لحظة انهيار جدار برلين، أن العالَم يتجه إلى التكامل بقوتها المحركة.

ترامب، هو روح الرأسمالية، وتجسيدها العملي. خروج لاهوتها من ناسوتها. انقلابها على ذاتها، والتملص من نتائج خياراتها. التقوقع في لحظة حاسمة، كان الاندماج فيها ممكناً، نظرياً.

لا شك أن مقدمات طويلة سبقت هذا التحول. التنافس المحموم على ثروات تتضاءل، الثورة التقنية، التغير المناخي، أزمات اللاجئين والحروب الصغرى المندلعة حول العالم.

العملية الراهنة لإعادة صياغة المنظومة العولمية، كانت قد تغذّت من مصدر خفي: تراكم الثروة غير المتكافئ عالمياً. الفجوة بين الأكثر غنى والأكثر فقراً، حول العالم، باتت غير قابلة للردم. فالسباق كان بين متسابقين انطلقوا في مراحل مختلفة. إشارة البدء في السباق لم تكن واحدة للجميع. وبينما يغرق العرب في حروبهم، والأفارقة في جوعهم، والفساد ينهش أميركا اللاتينية، كانت الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين، والصين، قد قطعوا أشواطاً كبرى في التطور التقني، ومراكمة نواتج الدخل المحلي.

لكن الأكثر غنى، والمسؤول عن تشكيل المنظومة الراهنة، أعلن بكل بساطة أن السباق قد انتهى. فأميركا أولاً.

إعلان ترامب اطلاق الحرب الإقتصادية، هو لحظة تأسيسية في عالمنا المعاصر، وقد لا يمكن عكسها أو نقضها. هي لحظة مرعبة لجهة الإعلان عن تكريس العالم كوحدات سياسية-اقتصادية متصارعة، لا ناظم لها، في معركة لن يبقى فيها سوى الأقوى.

الحلم الذي رافق أصحاب الثورات الملونة، وثورات الربيع العربي، ربما لم يكن سوى وَهْم. فلا قيمة لمحتوى الرأسمالية الليبرالي بعد اليوم. الديموقراطية، حتى في الولايات المتحدة، باتت عرضة للخطر، مع فداحة فضائح ترامب، وتطاوله غير الدستوري على القضاء ومؤسساته.

لحظة اندلاع هذه الحرب الإقتصادية، بدأت نهاية "حلم" اندماج البشر في كوكب واحد تسوده منظومة سياسية موحدة. التكامل الاقتصادي، الذي حفرت أسسه مطارق هادمي جدار برلين، ربما لم يكن إلا وهماً. فهذي هي جدران السياسة تعود لترتفع من حولنا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها