السبت 2018/04/21

آخر تحديث: 09:26 (بيروت)

لماذا استخدم الأسد الكيماوي؟

السبت 2018/04/21
لماذا استخدم الأسد الكيماوي؟
الأسد الكيماوي باقٍ (Getty)
increase حجم الخط decrease
تساءل كثيرون من موالي نظام الأسد، والبروباغانديين لحسابه، ممن باتوا يُعرفون عموماً بالأسديين، عن الضرورة والمنطق خلف استخدام النظام الأسدي للكيماوي في دوما، في لحظة كان النصر فيها وشيكاً لقواته؟

السؤال شديد الوجاهة ظاهرياً، يحتاج إلى تصويب، ليصبح ربما: لماذا اختار نظام الأسد دوما، في 7 نيسان/إبريل، ليقصفها بالكيماوي؟

كان "جيش الإسلام" قد استعصى على النظام، وحلفاءه، رافضاً "التهجير القسري"، مقدماً تنازلاً تلو الأخر، كان آخرها قبول التحول إلى شرطة بتعداد 1000 مسلح، وضمان دخول "مؤسسات الدولة". النظام وجد حرجاً في قبول أي اتفاق لا يتضمن المحتوى ذاته من الاستسلام، الذي انطبق بشكل أو بآخر، على جميع اتفاقات "المصالحة الشاملة" السابقة: خروج من يعارض الاتفاق، وتطبيع العلاقات مع المجتمع المتبقي إلى لحظة ما قبل اندلاع الثورة السورية في العام 2011.

في تلك اللحظة من المفاوضات، تحولت دوما، إلى حجر عثرة. "جيش الإسلام" ظل متماسكاً عسكرياً، رغم كل محاولات خلخلته من داخل حاضنته الاجتماعية، والتي قادها أعيان دوما الموالين للنظام. واحتفظ "جيش الإسلام"، بمجموعة أوراق ضغط، ظل يتلاعب بها: مخطوفو عدرا العمالية في سجونه، أسلحة ثقيلة وذخيرة تكفي للصمود طويلاً، ومفاوضات دولية مع روسيا بخصوصه.

اختيار النظام للهجوم على الغوطة الشرقية، والذي بدأ في شباط 2018، يحتاج لدراسة معمقة أكثر. الغوطة، بوصفها تضم منطقتي "خفض تصعيد" بتوقيع روسيا، و"جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن"، كانت في الوقت نفسه أكبر معقل للمعارضة المسلحة بالقرب من دمشق. عشرات آلاف المسلحين، منظومة متكاملة من المجالس المحلية الفاعلة، انتخابات ديموقراطية لأول مرة في تاريخ سوريا المُعاصر، سجلات مدنية، نظام اسعافي ممتاز، في ظل حصار خانق منذ العام 2013. إلى جانب ذلك، مظاهر أمراء الحرب في الغوطة، مماثلة لغيرها، وكذلك اقتصاد الحرب ودينامياته. الاقتتال الداخلي في الغوطة، كان حدثاً دورياً، وكذلك التناحر على مزابل الفصائل. الطابور الخامس، كان في طور التشكل، والنظام استثمر فيه طويلاً.

كان أسهل للنظام، بعدما أنجز عملية تفريغ شرقي سكة الحجاز في إدلب من معارضيه، أن ينتقل إلى القلمون الشرقي أو ريف حمص الشمالي أو حتى البلدات جنوبي دمشق، وهي مناطق يمكن احتواؤها بخسائر عسكرية أقل. اختيار الغوطة، كان متعمداً: كسر الطرف المُعارض الأقوى، كي يتم استثمار الانتصار في عقد اتفاقات استسلام مع بقية المناطق، من دون الاضطرار لخوض معارك وفتح جبهات مكلفة.

وهذا ما حصل.

القصف المتواصل لشهرين، على الغوطة، أوصل الناس إلى لحظة العجز الكامل. "التسليم بقضاء الله وقدره". قبول أي حل يوقف موتهم، وموت أحبائهم. في النهاية، هم بشر وليسوا أساطير.

دوما، ظلت حجر عثرة. اعطاء النظام لـ"جيش الإسلام" أي معاملة تفضيلية في دوما، قد يشجع أطراف المعارضة الأخرى في بقية المناطق، على اختبار حلول مماثلة، والضغط باتجاه تنازلات إضافية من النظام.

النظام، وحلفاؤه، أرادوا حسماً عسكرياً جلياً في دوما، يُجبر الآخرين على الرضوخ. فالنظام يريد انتصاراً، عسكرياً سياسياً، لا مجال فيه لأي "تسوية" تبقي أثراً من الثورة السورية. المطلوب حرفياً، العودة إلى ما قبل أذار/مارس 2011. إعادة السوريين إلى العيش مجدداً ضمن مملكة الخوف.

وثيقة مُسرّبة من خمسة بنود، قيل إن النظام عرضها على الراغبين بالبقاء في الغوطة الشرقية و"تسوية أوضاعهم"، ليوقعوا عليها، وذلك "بعد أن أصبحت المنطقة بالكامل خاضعة لسيطرته"، تضمنت فهم النظام لطبيعة سكان سوريا في ظل سيطرته. ونصت البنود على "عدم إثارة الشغب، أو رفع الشعارات المعادية للدولة، أو كتابتها، أو التحريض عليها، أو السكوت أو التستر على من يرتكبها أو يحرض عليها". أي، رفض النظام، لمظاهر العام 2011 السلمية. و"عدم تخريب أو تعطيل الممتلكات العامة والخاصة، أو حمل السلاح أو حيازته أو شرائه أو الاتجار به أو تهريبه، بأي شكل من الأشكال، وبغض النظر عن نوعه أو مسماه". أي العودة النهائية أيضاً عن مرحلة العام 2012-2013. البند الثالث نص على: "يتعهد الأهالي الراغبين بالبقاء داخل مدنهم وبلداتهم، عدم الاعتداء بالقول أو الفعل، على رجال الأمن والشرطة وعناصر الجيش"، في حين يُقر الموقّعون، "إقراراً"، بـ"اطلاعهم على العقوبات المترتبة في حال مخالفة بنود الوثيقة"، و"العمل في ظل مؤسسات الدولة".

مجمل تلك البنود، إن كانت الوثيقة صحيحة، تصف من هو السوري المقبول بنظر النظام. شخص تخلى عن حريته في تقرير شكل الحكم الذي يناسبه، بعد سنوات حرب طويلة أنتجت الكثير من الآلام، وقَبِلَ العودة إلى العيش في منظومة حكم آل الأسد.

كيماوي النظام، كان ضرورة لحسم تلك المعركة، وتوضيح من هو "المواطن السوري" القادر على استنشاق الكيماوي. استخدام أكثر الوسائل رعباً، في مخيال الناس، لقتلهم. إبادتهم إن استمر عنادهم.

لكن الأرقام مذهلة. من أصل 130 ألفاً، كانوا في دوما خلال المعركة الأخيرة، بقي 90 ألفاً. منهم 22 طبيباً ومسعفاً، كانوا على رأس عملهم أثناء الضربة الكيماوية. هؤلاء الأطباء والمسعفون، ممن قبلوا طوعاً البقاء في مدينتهم، وبعد فترة احتجاز في أحد فروع الأجهزة الأمنية في العاصمة دمشق، خرجوا على الإعلام لينفوا، بشكل موارب، وقوع الهجوم الكيماوي. قالوا بنظرية "الاختناق بالغبار، المترافق مع حالة هلع عندما تسربت أنباء عن هجوم بالكيماوي". على الأقل، تمكنوا من انتاج نسخة ذات معنى من الانكار القسري، الذي يريده النظام، لوقوع المجزرة.

هؤلاء الأطباء ليسوا خونة، ولم يكونوا كذلك في أي لحظة. لكنهم، ككثيرين غيرهم، اختاروا البقاء على رحلة تشريد جديدة لن تكون أفضل حالاً. البقاء هناك، له كلفته الباهظة. وهذا ما يدفع إلى التساؤل بجدية كاملة: لماذا اختار 90 ألفاً البقاء؟ هل أيقنوا أن الثورة انتهت، ولا فرصة ممكنة بعد لقلب نظام الأسد، وهل فشلت المعارضة المسلحة، والإسلاميون، في تحقيق أي غدّ أفضل؟ وهل دفع حجم المجزرة الهائل بالناس للاستسلام، لمرة واحدة وأخيرة.

السر يبدو كامناً في السلاح الكيماوي للإجابة على هذه الأسئلة. صحيح أن الأسلحة التقليدية قتلت قرابة المليون، وأعاقت ملايين، وتسببت بخفض عدد السوريين في سوريا إلى النصف، إلا أن الكيماوي هو بصمة النظام الخاصة. سلاحه السري. متعته. رغبته الخالصة في "القتل الرحيم". هنا ينام معارضوه وأطفالهم. هكذا قالت الأم أغنيس في نفيها وقوع مجزرة الغوطة الكيماوية في آب 2013. قالت: "الصور قد تكون ببساطة لأطفال نائمين".

السارين، أصبح هوية السوريين، رائحتهم الحميمة. السوريون، هم ضحايا هذه العلامة المُسجلة من الشر، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. هذه هويتنا التي سيتذكرنا بها تاريخ ضحايا البشر. إلى جانب ضحايا الخردل في كردستان العراق، والسلاح الأبيض في راوندا، وأفران الغاز في معسكرات اعتقال اليهود في عهد النازية.

السارين هو الرعب الذي يجبُّ كل رعب قبله. استخدامه هو تصريح مرتكبه بقدرته على الإفلات من العقاب. مجرد استخدامه هو التحدي لكل المعايير الإنسانية، التي خرج السوريين من أجلها يوماً قبل سنوات سبع. استخدام السارين في دوما، وما أعقبه من مفرقعات نارية في ليلة دمشقية صافية، كان لحظة الإدراك الشقية للسوريين: الأسد الكيماوي باقٍ.

خلال أيام قليلة بعد كيماوي السابع من نيسان، الذكرى الحادية والسبعين لتأسيس حزب "البعث العربي الإشتراكي"، استسلمت دوما، والقلمون الشرقي، وأحياء دمشق الجنوبية، بينما يناقش ريف حمص الشمالي بنود الاتفاق. الاتفاقات تقريباً، نسخ عن بعضها. هي اتفاق أذعان واحد، تتغير أطراف المعارضة الموقعة عليه، ولا يتغير مصير الناس: التهجير أو "تسوية وضع".

الإجابة على سؤال الأسديين "لماذا استخدم النظام الكيماوي؟" تبدو شديدة الوضوح: لكل قاتل متسلسل سلاحه المفضل. وهكذا هو أسد السارين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها