الثلاثاء 2017/03/21

آخر تحديث: 11:27 (بيروت)

دمشق: مدينة الناجين

الثلاثاء 2017/03/21
دمشق: مدينة الناجين
يمر آذار، بذكراه العزيزة الحزينة على أهل المدينة، لا ثورة مستمرة ولا آمال كبيرة (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
كل ما ذكرّت أحدهم: "إنه آذار، الثورة بدأت في دمشق في آذار 2011"، تسمع التالي: "أي ثورة؟"، ثم سرداً من احباطات أيام وسنين. فالمشاعر مختلطة بالنسبة لأنصار الثورة السابقين. نعم السابقين، لأن معظم من بقي في البلد لا يخفون رأيهم بما يحدث حولهم، على أنه كارثة يجب أن تنتهي. لا مقدس هنا، لا حرية ولا مكاسب حُقِّقَت السنوات الماضية. يقارن الكهول هذه الأيام بالثمانينيات، ويزعمون أنها أسوأ بكثير. يستحي من تظاهر يوماً إعلان ذلك، وليس الخوف دوماً هو السبب، فكيف تغفل عن أنك، وإن لم تكن تلك نيتك، واحد من أسباب مصيبة تعيشها وكل من حولك، في مدينة تعيش بكاملها اضطراب الصدمة. مدينة سكانها من الناجين.

بدأ آذار/مارس 2017 في العاصمة الشاحبة، دافئاً، ليطمئن الفقراء أن بردهم انتهى. أراد الجميع استقبال قليل من الراحة بعد أزمات ماء ووقود وطاقة متتابعة. لتتحول أيامهم سريعاً إلى البرد، الخوف والوحشة. عادت الحرب في دمشق بعودتها في ريفها، يقصف النظام القابون وجوبر وبرزة والغوطة الشرقية، وتسقط القنابل في المدينة وتعود التفجيرات. تتقدم المعارضة في الأحياء الشرقية، ويزداد عنف النظام. المعارضة تدفع عن نفسها كأس التهجير، بعدما طال الحصار والموت.

بالنسبة للمعارضين من سكان دمشق والمُهجرين إليها، الأمر يشوش الأحكام والمواقف. تؤيد جيرانك الثائرين، لكنك لا تستطيع العيش معهم. بغض النظر عن الحصار والقصف؛ الاصرار على تثبيت أنماط حياة بالقوة ليس بالأمر الهيّن على كثير من السكان. لا ينكر الدمشقيون رفضهم لذلك، كما لا ينكر المعارضون شقاءهم لقصف المعارضة الخجول على المدينة، يلصقون معظم القذائف بالنظام ويخجلون من تسمية ما يحدث اليوم "ثورة".

"بماذا نحتفل بالضبط؟!" مذهولاً يتحدث نبراس عن احتفالات يسمع عنها بذكرى الثورة السادسة في مناطق تابعة للمعارضة. وهو الذي شارك في ثورة مدينته ديرالزور، وخسر بيته وصيدليته بقصف النظام، ثم لجأ إلى دمشق هارباً من "داعش"، مصاباً بشظايا في الوجه والصدر بعد سقوط قذيفة على مكان عمله. يودي به هذا لتحقيق الحواجز العسكرية وازعاجها، ظانين أنه آت للتو من مناطق المعارضة، فيطلبون تأكيدات مختلفة عن مكان الإقامة والعمل، ما يجعل حياته تسلسلاً لمصائب لا يثق بنفاذها.

لا يلقي تجمع السكان الأكبر بالاً للذكرى. "كلنا تيار ثالث" يقول فواز المعارض القديم ناعياً لنفسه وللآخرين أي انتماء، لديه هموم أضيق من هذا بكثير، فحياته عبارة عن معركة بقاء يتحدى فيها كل شيء. تأمين الرزق لا يخلو اليوم من شبهة مهما كان، العاملون في المجالات الإنسانية والإعلاميون لا يختلفون كثيراً عن سائقين يضاعفون أجرهم أو عن اللصوص، كل يحاول أن يستفيد. التدافع شرط كل شيء، القفز فوق الأجساد لصعود باص أو تجاوز حاجز هو السلوك المعتاد. من الرفاهية أن تفكر بغيرك، تبدو عندها مرتاحاً بما يثير حنق الآخرين؛ أنت أناني خاطئ لأنك فقير ذليل، ومن يملك سوى ذلك مستفيد متهم، كأن هذه قواعد الحرب غير المعلنة.

في الليل، بعد الصدمات الأخيرة للمدينة، ينظر الخيال إلى الظل القادم في العتمة خائفاً، وإذ يقتربان يدركان أنهما مثل بعضهما، كل خائف من الآخر، كلاهما مشفق على الآخر وعلى نفسه. الأحاديث مع الباعة، أو مع الآخرين في الطوابير وفي وسائل النقل العام سهل، فالجميع يتشارك المصاب ذاته. يلتقطون موجات الخوف وما يمكن قوله مما لا يمكن، ثم يتجاوزونها مرحلة إثر أخرى. تتشارك مع الآخر، في مصيبة على الأقل، وتتعاطف وإياه. لكن إذا ما وصل الخائفون إلى اتهام النظام، كسبب لكل هذا، فقد اتحدوا ثانية، وثاروا لأنفسهم عنفواناً، وهذا أقصى ما يمكن. قد يقضي التعب على أي شيء، الملل من حجم عقبات ومتطلبات عيش تغدو مستحيلة أكثر فأكثر ينهك أي حلم، أي رغبة، ويغتصب القدرة على الفعل.

الخسارة حال الجميع، من يدفعون ثمن التغيير، بلا أي فخر أو شرف مواقف هم فقط يفعلون. بلا ضجة الأحداث الكبيرة والصدمات، بذلّ وعناء كل يوم، مع بعض الأزمات المتعبة والموت أحياناً. اعتادوا كل هذا حتى ملّوه، مستمرين فقط كأرواح ميتة شاء لها سوء الحظ أن تبقى بين الأحياء، بفائدة لا تعدو تسجيل العبر لمن سيأتي بعدهم.

يراقبون الطائرات تعبر فوق رؤوسهم، لا حول لهم ولا قوة، يسمعون أصوات الحرب ويقفون لحظات ثم يلقون تعليقاً من شاكلة "الله يفرج" ويستمرون في ما هم فيه، في عيونهم غضب ممزوج ببؤس قديم. الإدراك أن مصائرنا مرتبطة بمصالح أكبر من مساحة بلد، أن المال يقف وراء معاناة البعض ويجعل منها مكاسب للبعض الآخر، بات حقيقة متداولة ومعاشة. كيف تفكر بالتغيير، كيف تعني لك الثورة شيئاً إن كان كل شيء تفعله مغرقاً في عبثية مجانية لن تقدم أو تؤخر، كيف تستمر أصلاً ولماذا؟ ثقل الاحساس بالعجز يسلب من وجه الناس اللون ويفقدهم كرامتهم. ينصهرون ككتلة واحدة صماء تتحرك في أرجاء المدينة دون أن تتحرك فعلاً، هي تستمر لا أكثر ويودي هذا بها إلى اليأس والموت حتى إن استمرت علائم الحياة.

"بشار الأسد ما بيقعد لو بتأذن الأمم" يؤكد المعارض القديم. ثمة اعتقاد يسري بين السوريين برحيل بشار الأسد لا محالة واقتراب تغيير ما. يأتي هذا بعد جولات المفاوضات الأخيرة والتصريحات التي تتنبأ بضرورة حدوث شيء مختلف. ولا غير رأس النظام عقدة لتحل. ليس في هذا الاعتقاد احساس بانتصار من أي نوع. فقد "فات أوان الانتصار" يقول نبراس. إن هو إلا ارتياح المريض بقرب انهاء واحدة من فصول معاناته فتبدأ غيرها بعد حين.

لكننا "نستيقظ كل يوم منتظرين، كلنا" كما تقول سناء الموسيقية الشابة. لا تفارقك لحظة الوجود في أتون الحرب هذه، أنت على ثقة أن كل ما تعيشه مرتبط بها، حتى حين تتناساها في محاولات فرح، تدرك أنها تحزنك، أنها جعلتك بشعاً، وحيداً، ومنتظراً.

"نحن لا نحب بعضنا"، "ليس فينا خير"، "أخرجت هذه السنوات القمامة فينا"، جمل تسمع مثلها في كل مكان، وكأننا نعرف أن المشكلة فينا كما في الآخرين. يراجع البعض التاريخ ليستعيد أسباب احتقان طائفي ويجيب عن أسئلة اليوم، لماذا لدى العلويين مخاوف وجودية؟ ولم ينأى المسيحيون بأنفسهم؟ كيف يكون الدروز والاسماعيليون أقرب للثورة من غيرهم؟ وكأننا بدأنا نتعرف على بعضنا ونذهب أبعد. "كآدم وحواء اللذين أكلا من شجرة المعرفة فأودى هذا بهما على الأرض" ترى سناء، لكن كيف نستفيد من هذه المعارف القديمة والجديدة وبأي اتجاه تأخذنا؟ وكيف نستطيع أخذ زمام أمورنا حيث نريد له أن يكون؟ كيف ننقذ أنفسنا؟ هي تساؤلات اللحظة الآن في دمشق.

هكذا يمر آذار، بذكراه العزيزة الحزينة على أهل المدينة، لا ثورة مستمرة ولا آمال كبيرة. أصاب التواضع الباقين المكسورين، هؤلاء الذين لم يموتوا ولم يرحلوا، وعرف معظمهم غياهب اعتقال النظام وظلمه. يحيق بضعفهم الأمر الواقع فيستسلمون ويكملون العيش لا أكثر. يعيد المعارض السابق شطر شعر قديم كلما شاح بنظره "دعوني فإني آكل العيش بالجبن".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها