الجمعة 2017/11/17

آخر تحديث: 13:55 (بيروت)

"داعش": مَن ينتصر.. الدم أم السيف؟

الجمعة 2017/11/17
"داعش": مَن ينتصر.. الدم أم السيف؟
هُدمت حواضر سوريا والعراق، كي يتم اخراجهم منها (Getty)
increase حجم الخط decrease
الاتفاق بين "قوات سوريا الديموقراطية" و"الدولة الاسلامية"، على إنهاء الحرب في الرقة، عبر تأمين ممر آمن لخروج 4 آلاف من مقاتلي "داعش" المحليين والأجانب وعائلاتهم، في 12 تشرين الأول/أكتوبر، قد لا يكون فضيحة في حد ذاته. الفضيحة قد تكون في استهجان الإتفاق، وكأن المُضمر البديهي هو ضرورة استمرار القتال حتى انهاء مقاتلي "داعش" وعائلاتهم ومعهم آلاف المدنيين العالقين بين طرفي القتال.

اتفاقات مشابهة، كان قد رعاها "حزب الله" والدولة اللبنانية في جرود عرسال، والنظام السوري في السخنة والقريتين وبادية السلمية وريف حلب الشرقي، وكذلك فصائل "درع الفرات" في الباب وجرابلس، و"قسد" في منبج، وروسيا في تدمر.

الموضوع في حد ذاته هو تكرار لذات النموذج: حصار "الدولة الاسلامية" في منطقة جغرافية محددة، واستنزافها بالضربات الجوية والعمليات البرية، وتدميرها على رؤوس أهلها المُحتجزين فيها كرهائن ودروع بشرية، حتى يقتنع مخبولو "الدولة الاسلامية" بعدم جدوى الاستمرار، وإمكانية الانتقال إلى الجنّة، ولكن في معركة أخرى، في منطقة أخرى. حينها يتم تأمين ممر آمن للمستسلمين الدواعش، وغالباً ما ترافقهم قوات حماية وصولاً إلى مستقرهم الجديد.

اعتراض "التحالف الدولي" على قافلة "داعش" الخارجة من عرسال إلى بادية ديرالزور، جاء نكاية باعتراض روسي سابق على اتفاق أولي لإخراج الدواعش من الرقة باتجاه السخنة.

تأمين ممر آمن يُقدم خدمة للطرفين المتقاتلين؛ وقف القتال وتسريع تسجيل نصر ضد "داعش" في الحملة الدولية ضد الإرهاب، وحفظ حياة آخر المقاتلين المتحصنين، ممن يتطلب القضاء عليهم المزيد من الوقت والخسائر للقوات المقتحمة. عملية إخراجهم من منطقة إلى أخرى، هي تأجيل المعركة الختامية معهم، إلى موقعة أخيرة، حيث يتم حشرهم. مخبولو "الدولة الاسلامية"، ومع استمرار عملية تقهقرهم، باتوا محصورين في مساحة ضيقة على الحدود السورية العراقية. هُدمت حواضر سوريا والعراق، كي يتم اخراجهم منها. وفي كل مرة، يحظون في النهاية بممرات آمنة. لتعاد الكرة من جديد، في مكان آخر.

اعتراضات غربية كثيرة، وقفت بين الحين والآخر، أمام هذا الأسلوب. فالمطلوب هو القضاء على هؤلاء الإرهابيين، من دون أن يُترك لهم مجال للهرب أو الاستسلام. مسؤولو الدول الكبرى، لطالما تحدثوا عن عمليات تطهير وإفناء للدواعش، خصوصاً الأجانب منهم، بهدف منع عودتهم إلى بلدانهم الأصلية. الداعشي المحلي، غالباً ما تتم مصالحته عشائرياً، في حين أن الداعشي المهاجر، هو الخطر الكامن في حال بقائه حيّاً.

المعضلة هنا، أن عملية الإجهاز على مقاتلي التنظيم، تحمل بُعداً لا سياسياً، أو مضاداً للسياسة. أي التخلص وإلى الأبد مما يعكر صفو الانسجام الداخلي، والأمن الإقليمي، وربما الدولي. التعامل مع الدواعش، كأهداف تستحق الإبادة، هو بدوره، فعل داعشي بامتياز، يواجه العدو برغبة الإفناء.

ويثبت "داعش"، مرة تلو الأخرى، أنه ينتمي إلى الطبيعة البشرية، وأنه قابل للتفاوض إذا ما لاحت الهزيمة. هنا تراوح "الدولة الإسلامية" بين طبيعتين مختلفتين؛ بشرية وإلهية. وخطيئة التنظيم الأصلية أنه لا يعترف بالهزيمة. هزيمته ليست دنيوية، وانتصاره إلهي. مثله كمثل "حزب الله"، وثورة الخامنئي الإسلامية، ونظام "البعث" بنسختيه السورية والعراقية.

انتصار "داعش" إلهي، في تحقيق لوعد محسوم، لذا فهزيمته مستحيلة. هكذا فقط يستطيع الاستمرار، حتى ولو كان بلا جسد، ولا رأس. هذا لا ينفي دنيويته، وقدرته على التفاوض، وقبلها في الحكم والهيمنة. شمولية أتوقراطية لا تُهزم. والحافلات التي تنقل مقاتليه من مكان إلى آخر، ليست سوى دليل على تلك الطبيعة المزدوجة.

ما انتصر فيه "داعش"، هو تحويل العالم برمته، إلى "داعش" مقلوب على رأسه. الأصوات الغاضبة ضد اتفاق إخلاء الرقة، ترى الانتصار على مقاتلي "داعش"، فعلاً غير منجزٍ إلا بالتطهير، بالإنهاء الجذري لهم، وهم المتخذون من آلاف البشر دروعاً لهم. انتصار "داعش" اليوم، هو في تحويل العالم إلى نسخة على شكله ومثاله، تؤمن بأن الحل الوحيد للإرهاب، هي بالإرهاب المضاد.

العجز عن فهم العنف من خارج المقولات الأمنية، كان قد دفع العالَم بعد تفجير برجي التجارة إلى غض النظر عن منظومة القيم الليبرالية الديموقراطية السائدة منذ الحرب العالمية الثانية، والمكرسة عنواناً لنهاية التاريخ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لصالح نظريات مختلة كصراع الحضارات، وما يرافقها اليوم من صعود مخيف لليمين القومي في العالم.

المقولة الأمنية المتصلة بعنف الإرهابيين الإسلاميين، تنكر على حواضنهم المشروع والبرنامج والمطالب والدوافعن سياسية كانت، أو اقتصادية أو ثقافية. انكار التجربة الإنسانية عن "الإرهابيين"، هو انكار لذواتهم، وتنصل من مسؤولية ما في صنعهم والمساهمة في خلق الظروف التي أنضجتهم. رفض الاعتراف ببشريتهم، هو فعل مساوٍ لأفعالهم، وانحدار إلى ذهنيتهم، وتموضع مقابل في لعبتهم ذاتها.

التماهي مع استخدام القوة المحض لسحق "داعش"، هو انتصار لمظلوميتها، ورفع لها إلى المرتبة المتخيلة التي تريدها: روح بلا جسد. وكأن اللاهوت حلّ فيها، فانتصر "الدم على السيف"، مجدداً.

المهزوم في الحالات الطبيعة، سيستمر في انكار هزيمته، باحثاً عن آفاق جديدة للتمرد المقبل. ولكن، ماذا عن مهزوم يؤمن بأن هزيمته امتحان من الله، وابتلاء لن يزول إلا بالانتصار لواقع متخيل؟ وواقع "الدولة الإسلامية" المتخيل، هو اللغة التي تحدثت بها إلى جنودها، هو القطع مع الواقع، وإعلان الحرب ضده. هو النداء الذي وجهته، وسمعه عشرات آلاف المهووسين، فلبوا، وأتوا إلى الصحراء، حيث "تُزهر" أرواحهم. الواقع المتخيل لأولئك المجانين، لن ينتهي بنهاية "الخلافة"، على أيدي قوى خارجية دمرت المجتمعات المحلية، صاحبة المظلومية في الأصل.

وإذا كان مبدأ الطاعة لا يكمن في القسوة التي تفرضه، والتي لا تنفصل عنه، بل في علاقات رمزية تُجنّد البنى المعرفية المستبطنة، كما يقول بيار بورديو، فإن هذه البنى لدى مُنكِري الهزيمة لن تُشرّع سوى استمرار مقاومتهم الداخلية، لتمارسها مقلوبة كقسوة مضادة، ضد الذات والآخرين.

إن كان من فضيحة في الاتفاق لإخلاء الدواعش من الرقة، فهي البنية المعرفية المستبطنة لدى رافضي الاتفاق ومستهجنيه، الواثقين من حقهم في استخدام القسوة لفرض الموت، لا الطاعة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها