الأربعاء 2016/07/20

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

السلفية الجهادية و"فتنة" أردوغان

الأربعاء 2016/07/20
السلفية الجهادية و"فتنة" أردوغان
الفرحة جائزة، لا كأصل، بل قياساً على فرح الصحابة في عهد النبوة بانتصار الروم على الفرس (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
للمرة الثانية خلال فترة قصيرة، يجد التيار السلفي الجهادي نفسه في موقف محرج، حيال واحدة من أهم وأعقد القضايا بالنسبة له، وهي "الديموقراطية"، ما جعله في مرمى النقد كما لم يحدث من قبل.

فبعد معارضته إنقلاب الجيش المصري على حكومة الرئيس السابق محمد مرسي، في العام 2013، وما أدى إليه هذا الموقف من تساؤلات تستغرب هذا الموقف بالرغم من رفض التيار للديموقراطية التي جاءت بـ"الأخوان المسلمين" إلى الحكم في مصر، أعادت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا وموقف السلفية الجاهدية منها، الاستغراب إلى الواجهة مجدداً.

ولا يتوقف الأمر هنا عند السؤال الكبير: "كيف يعارض السلفيون الجهاديون الإنقلاب على الديموقراطية، وفي الوقت نفسه يعتبرونها كفراً؟"، بل يمتد أبعد من مجرد محاكمة المواقف من هذا الحدث، الذي كشف، كما يقول الكثيرون، حقيقة تأثير ووزن التيار شعبياً.

فالتأييد الجارف لحكومة حزب "العدالة والتنمية" في تركيا، في مواجهة محاولة الإنقلاب التي تعرضت لها في 15 تموز/يوليو، على المستوى العربي والإسلامي، ناهيك عن الاستجابة الكبيرة من الشعب التركي لدعوة الرئيس رجب طيب أردوغان، ونزول الجماهير بالآلاف إلى الساحات خلال دقائق تلبية لطلبه، الأمر الذي كان له الأثر الأكبر في إفشال هذا الإنقلاب، يُظهر بحسب معظم المراقبين، معاناة التيار السلفي الجهادي في إقناع الشعوب بفكره، بل وأكثر من ذلك، يُظهر إلى أي حد تتشوق هذه الشعوب لتعميم تجربة الديموقراطية التركية في بلادها.

واقع لا يبدو أنه غاب عن التيار وقادته، الذين تعاملوا مع الحدث ببراغماتية، كما يتهمهم الآخرون، بينما يقولون إنهم تعاملوا معها بمعايير أخلاقية، تنسجم في الوقت نفسه مع قناعاتهم. فإضطراب الموقف أولاً، ومن ثم الانحناء للعاصفة، وأخيراً العمل على الخروج منها بأقل الخسائر.. هكذا كان عليه حال التيار السلفي الجهادي في رد فعله على محاولة الانقلاب في تركيا، كما يقول خصومه، ويدللون على ذلك بعشرات التصريحات والمواقف التي عبر عنها رموز التيار تجاه الحادثة.

فمع أول دقائق الإعلان عن المحاولة، كان بارزاً تفاعل السلفيين الجاهدين مع الحدث؛ تفاعل حذر لم يعبر عن موقف (رافض أو مؤيد) بقدر ما انصب على أثبات صحة كل ما سبق وأكد عليه التيار في ما يخص الديموقراطية، باعتبارها خدعة يضحك بها الغرب على العالم أولاً، وثانياً، أن الجيش التركي هو حارس الغرب وليس جيش الشعب، كما أنه لا يخضع لحكومته المنتخبة.

هذا الموقف كان أول رد فعل من التيار مع الإعلان عن المحاولة الإنقلابية، وقد عبر عنه المنظر السلفي الجهادي الأردني من أصل فلسطيني أبو محمد المقدسي، الذي أعاد نشر تغريدة تقول: "تذكروا المجادلين عن الجيش العلماني.. قالوا هو جيش مسلم يسيطر عليه حزب العدالة .. تذكير وليس شماتة!". ليس شماتة، ربما، لكن الأكيد أن المقدسي وتياره لم يكونوا ليفوتوا فرصة ذهبية جاءتهم مع حديث الإعلام عن إنقلاب "هذا الجيش" على الحكومة، ليسخروا ممن رفض تكفير الجيش التركي سابقاً، باعتباره تحت قيادة حكومة إسلامية، متسائلين، وقد بدا بالنسبة لهم أن نجاح الإنقلاب أصبح حتمياً ومسألة وقت، ومصورين أن كل الجيش التركي على موقف واحد منه: "هل ما زال أصحاب هذه الفتوى على موقفهم".

لكن الصدمة الأولى جاءت مع إتضاح أن جزءاً من الجيش، لا الجيش التركي كله، من ينفذ محاولة الإنقلاب. وهو أمر تجاهله ناشطو التيار ومرجعياته البارزة، لصالح التركيز على دور الشعب التركي في مواجهة الإنقلابيين.

فقد استنكر أحد قادة التيار في الأردن، وهو محمد الشلبي المعروف باسم أبو سياف، محاولة الانقلاب الفاشلة، واصفاً ما حدث بأنه "انقلاب الكفر على الإسلام، وليس انقلاباً على شخص اردوغان".  وتابع: "نحن نحمد الله تعالى أن باء بالفشل وأعلن الشعب التركي إسلامه، من خلال الخروج الى الشوارع ورفع صوت التكبير في كل مكان".

وما كان يفترض أن يشكل مخرجاً للتيار من الحرج، التقطه خصوم التيار سريعاً، مذكرين بموقف السلفية الجهادية الذي لا يعترف بـ"الإرادة الشعبية"، ناهيك عن عدم الإيمان بالجماهير وخياراتها؛ إذ أن الشعوب، حسب مجمل أدبيات التيار، غير جديرة بالتعويل عليها لاختيار الأفضل، و"ليس هناك أفضل من إنفاذ إرادة الله واختياره، وهي مهمة عظيمة لا يمكن أن يفهمها الناس بالحجة والإقناع".

الرد على هذه النقطة، جاء من خلال تركيز أتباع التيار ومرجعياته على نقطتين؛ الأولى أن موقفهم من الحكومات في الدول الإسلامية وتكفيرها لا ينطبق على الشعوب. أما الثانية، فكانت التأكيد على الدور الذي لعبته الأجهزة الأمنية ومؤسسة الشرطة الداعمة لأردوغان، في مواجهة الإنقلابيين إلى جانب الحركة الجماهيرية، حيث مثل حضور هذه الأجهزة الفاعل تأكيداً جديداً على موقف السلفية الجهادية الحاسم من قضية الاعتماد على الإرادة الشعبية فقط دون السلاح، على اعتبار أنها لا تؤدي إلى أي تغيير، ومذكرين  في هذا الصدد بتجربة الأخوان "السلمية" في مصر.

ومع بدء ميلان الكفة لصالح حكومة أردوغان، ورداً على من هاجمه بسبب تحميله الجيش التركي بمجموعه المسؤولية عن الإنقلاب، كتب المقدسي في حسابه في "تويتر": "جيش خاضع للناتو وحارس للعلمانية، لا يرضى حتى برائحة الاسلام، إما ان يستأصل شرهم أو أن يستأصلوه وحزبه". هل يعني ذلك أن أردوغان مسلم، أو على الأقل أن حكومته غير مرتدة إذاً؟

سؤال وضعه الكثيرون، ليس برسم هذه التغريدة وحسب، بل وعشرات التغريدات والتصريحات التي أطلقها رموز التيار وناشطوه، والتي عبروا فيها عن فرحتهم بفشل الإنقلاب، وهي أسئلة لم يكن مصدرها معارضو التيار وخصومه فقط، بمن فيهم أنصار تنظيم "الدولة"، بل وكذلك الكثير من أنصار التيار نفسه، الذين سجلوا استغرابهم حول "كيف يجوز لمسلم الفرح لغير المسلم؟".

لكن الإجابات جاءت سريعة مرة أخرى، ومن مختلف رموز السلفية الجهادية، الذين أكدوا أن الفرحة جائزة، لا كأصل، بل قياساً على فرح الصحابة في عهد النبوة بانتصار الروم (أهل كتاب) على الفرس، وانتصار النجاشي ملك الحبشة على أحد قادته المنقلبين عليه. وهو قياس لا يصل بطبيعة الحال إلى درجة التصريح بإسلام الحكومة التركية، مع حفاظه على تجنب القول بكفرها.

وفي هذا الصدد كتب المنظر البارز في التيار، أبو قتادة الفلسطيني: "اردوغان لا يمثلني لكن أحب انتصاره، لأن وجوده فيه مصلحة للمسلمين. فحين يكون مقصدنا الملاذ الآمان من إجرام الطغاة نتوجه إلى الطيبين والعادلين، وحين يكون مقصدنا إقامة ديننا فلا يمثلنا إلا أهل الجهاد".

من جانبه، اعتبر الشيخ عبد الرزاق المهدي، عضو مجلس أهل العلم المشكل حديثاً في مناطق سيطرة المعارضة شمال سوريا "أن المسلم السني يتعاطف مع أردوغان ويفرح بانتصاره، بدليل خبر تعاطف المسلمين وفرحهم بانتصار الروم على الفرس لأن الروم أهل كتاب فهم أقرب من الفرس إلى المسلمين".

وقد أثار مضمون وإيحاء هذه التعليقات، على الرغم من شكلها الإيجابي، ردود فعل مستهجنة بسبب عدم اقرار أصحابها أن أردوغان وحكومته من المسلمين. وأكثر تعليق لاقى انتقاداً، كان للشيخ المهدي، الرجل الذي بات محسوباً على المعارضة الإسلامية السورية، والتي تعد الحكومة التركية أبرز حلفائها.

ومع اتساع دائرة التعاطف الشعبي في العالم العربي مع الحكومة التركية، بدا أن التيار السلفي الجهادي يشعر بأن حزب "العدالة والتنمية" يسجل نقاطاً غير محدودة، زادت من رصيده الجماهيري، ما بدا معه أن الأمر تحول إلى تهديد غير مسبوق للتيار.

أزمة زاد من حراجتها أن التيار ذاته قد ساهم في صناعتها، بعدما عبر عنه رموزه وأنصاره من مواقف معارضة للانقلاب وداعمة للحكومة التركية، الأمر الذي دفع الكثيرين منهم إلى المطالبة بالتحرك لمواجهة هذه الورطة، بل إن العشرات من أنصار التيار طرحوا على مشايخهم تعجباً يقول: "إن الناس يزدادون فتنة بإردوغان".

التجاوب مع هذه المطالبات بدأ متدرجاً أيضاً، ولأن 48 ساعة لم تكن كافية لإعادة التموضع على ما كان عليه الحال قبل 15 تموز/يوليو، فقد التقط كثر من المرجعيات السلفية الجهادية تصريح الشيخ ناصر العمر، عضو "الهيئة العليا لرابطة علماء المسلمين في السعودية"، الموجه لأردوغان، والذي طالبه فيه بإعلان تطبيق الشريعة، حيث قال: "إن من أعظم الشكر على هذا النصر أن تسعوا لأسلمة أنظمة بلادكم ونبذ القوانين العلمانية".

وعلى هذا المنوال كتب أبو محمد المقدسي: "أردوغان وحزبه مدينين للمساجد وروادها، فمن حقهم عليه أن يحكمهم بشرع الله، فمن وقف الشعب معه أيعذر بالامتناع عن تحكيم الشرع؟".

مواقف اعتبرها الكثيرون خطوة أخرى إلى الوراء، فهي تكشف مدى شعور السلفية الجهادية بخطر تصاعد شعبية الرئيس التركي وحزبه، حيث كتب المقدسي مرة أخرى: "من الغفلة أن ينسى المطبلون لأردوغان أن حكومته قبل الإنقلاب الفاشل بأيام، طبّعت مع روسيا واسرائيل، وكون النموذج التركي أقل طغياناً لا يعني تزكيته وإضلال الناس.. فهو نموذج يقوم على إدعاء الإسلام والحكم بالعلمانية، واستضافة اللاجئين وتسليم المجاهدين لأميركا، والبكاء على فلسطين ومصالحة اليهود".

موقف وافقته عليه الكثير من الشخصيات السلفية الجهادية البارزة، ومن بينها إياد قنيبي الذي أكد "أن المسلم قد يفرح لتغلب نظام يقترب من العلمانية في تعامله مع الإسلام، على نظام يعادي الإسلام بسفور، لكن أن نتحدث عن هذه المعركة كأنها انتصار للإسلام، فهذا تقزيم لصورة الصراع الإسلامي، الذي يخاض ضمن مسارات النظام الدولي".

لكن العودة إلى نقطة الصفر في الصراع بين التيار والتجربة الأردوغانية في تركيا، يمكن القول إنها تحققت تماماً مع تغريدة الداعية المصري هاني السباعي، الذي استجاب لدعوات أنصار التيار بالتحرك لمواجهة هذه "الفتنة"، حيث ذكّر الجميع بأن "الديموقراطية كفر بواح"، وقال: "ليس بلازم من يفرح بفشل انقلاب تركيا إيمانه بالديموقراطية.. الديموقراطية دين يناقض دين الإسلام".

هل هي براغماتية صرفة تعامل بها التيار السلفي الجهادي مع الحدث التركي، فانتقل بالفعل من ركوب الموجة إلى مواجهتها بعدما هدأت. أم أنه، كما يقول أنصار التيار، موقف يؤكد على التمايز المنهجي والثبات الأخلاقي في الوقت نفسه؟

 وبغض النظر عن الإجابات وتوجهها، فإن ما حدث يؤكد حسب الكثيرين، أن الشعوب العربية والإسلامية، التي تعاني من الديكتاتورية والعسف، تعاني كذلك من أزمة الطروحات التي لا تقدم لها حلولاً تستجيب لتطلعاتها السياسية، ومن بينها طروحات التيار السلفي الجهادي، تبدو أكثر من مقتنعة بالتجربة الديموقراطية التركية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها