الإثنين 2014/11/03

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

خريطة الشرق الأوسط: الرابح صامت

الإثنين 2014/11/03
خريطة الشرق الأوسط: الرابح صامت
داعش يستخدم الآن لترويض النظام السوري وإرغام الاسد على مغادرة الحكم كما حدث مع المالكي
increase حجم الخط decrease

ما من فرضية أو سيناريو يمكن أن يفسر أو يتنبأ بالاستراتيجية الاميركية في منطقة الشرق الاوسط، إلا واستعمله المحللون والكتاب، لكن أياً من فرضياتهم لم تصمد للامتحان، وبعضها فقد صدقيته فور وقوع الحدث التالي، ولم يثبت حتى الآن سوى تصورين، أو أنهما لم يدحضا بعد. يقول الأول بالمؤامرة العالمية المستمرة منذ قرن على السنّة العرب، ويلقي الآخر باللائمة في تشوش الرؤية على الرئيس الأميركي باراك أوباما، المتردد والعاجز عن اتخاذ قرارات جذرية يقتضيها الوضع الحالي.

المرجعية الذهنية لمجمل تلك التحليلات هي اميركية الاقليم، أو السيطرة الشاملة لهذه القوة العظمى على شؤونه، وهو حقيقة موضوعية إلى حد كبير، لكن ربما يمكن تمهيد الطريق لفهم أفضل للمشهد الحالي لو تجاوزنا هذا المحدد مؤقتاً، وتفحصنا طموحات وتطلعات وهواجس الأطراف المحلية، بوصفها ذوات فاعلة، لا منفعلة وتابعة حتماً، خاصة أن الحركية الفائقة على المسرح، تضطلع بها هذه الأطراف، بينما تشكل السياسة الأميركية السياق العام الثابت، الذي تحاول إدارة أوباما أن تجعله فضفاضاً ويستوعب الجميع. 


أكثر الفاعلين الإقليميين اندفاعاً وطموحاً هي ايران، التي ترابط منذ عقدين في موقع الهجوم، وتريد أن تنتزع مكانة دولية كممثل حصري للشيعة في العالم، وتقوم استراتيجيتها على فصل الشيعة خارجها عن مجتمعاتهم الأصلية واستقطابهم من خلال الرعاية الفائقة لشؤونهم. ويعتمد نجاح رؤيتها الامبراطورية على امتلاك قنبلة نووية، فمن دون هذه المظلة تبقى استثماراتها ومكاسبها الخارجية عرضة للتلاشي في أي وقت. هذه المحددات المعيارية: الحصرية، والرعاية، والسلاح النووي، هي الكرات الثلاث التي تحملها بكلتا يديها وتكافح للعبور بها إلى المستقبل، وفي حين تضغط السعودية على الملف النووي، وتضغط تركيا لإسقاط الاسد، الذي يجسد رحيله ذروة صورتها كمخلصة لرعاياها واتباعها، فإن إيران لا تتورع عن الرد بحشو الصدوع المذهبية والاثنية في هذين البلدين وحولهما بالديناميت، وتناور بعناصر سياسية لتمرير الجوهري. ويبدو أن المستقبل المنظور يخبئ مواجهة أكثر صدامية، في ما لو فشلت محادثاتها مع الدول الست حول الملف النووي، أو طرأ تهديد جدي للنظام السوري. ولكن يبقى عنصر حصرية تمثيل الشيعة قائماً في كافة الاحوال، خاصة مع غفول منافسيها عن الثغرة التي يمكن الاختراق منها، وهي الخلاف في الوسط الشيعي حول ولاية الفقيه.


تركيا، البلد الذي يتكيء على الماء وليس النفط في نهضته، بما يعنيه ذلك من تجدد وديمومة، يسير على هدى هذا المقوم الاقتصادي بصبر فلاح لا يستعجل مواسمه لكنه لا يهملها، حصاده السوري أهم ما يشغله اليوم، فقد استثمر فيه مطولاً، وهو يحكم قبضته عليه أكثر فأكثر، فهو بوابته إلى العالم العربي، بعد أن أوصدت في وجهه بوابة مصر، التي ربما يتنازل عنها في النهاية لدول الخليج، وفي إطار قسمة النفوذ الاقليمية، لن يسمح لايران بتخطي العراق، فهي المنافس الأكثر جدية لحلمه الامبراطوري العثماني هو الآخر، ويراقبان بعضهما البعض خلسة، ويتنافسان ضمناً على الخليج العربي، فهو الاقليم المرجح لكل طموحات كل منهما، وطالما أن حزب أرودغان بارتباطاته الإخوانية في الحكم فإن ايران ستبقى مطمئنة، لكن الموازين ستنقلب كلياً في ما لو استدعت صحارى الخليج مياه الاناضول، أو انسابت هذه إليها بنعومة وطراوة.


الخليج العربي ومعه مصر في موقف الدفاع داخلياً وخارجياً، وعلى الرغم من وجود اسناد عسكري اميركي لها، إلا أن ذعرها من الإسلام السياسي يطغى على سلوكها، ومع أن مخاوفها محقة في بعض جوانبها، إلا أنها تغفل عن كون صراعها معه يجعلها أضعف أمام ايران. وهي مخيرة اليوم بين أن تشمر عن سواعد الجد فتدخل سباق تسلح مع ايران وتركيا، وإما أن تختار أحد الاسلامين: السياسي السني، أو الاسلام الشيعي، فتتحالف مع أحدهما ضد الآخر.


في هذه الأثناء يبدو الحصان الاسود على حلبة الشرق الاوسط، أي تنظيم الدولة الإسلامية، مجمع الرهانات السياسية المتناقضة، والجميع ينظر إليه كفرصة وخطر في الآن نفسه، وهو ينبثق ويتمدد في الديموغرافيا المتنازع عليها بين الاطراف آنفة الذكر، وحتى هذه الحظة يعتبر أداة تسوية لأوضاع شائكة، مثل الحال العراقية، وهو يستخدم الآن لترويض النظام السوري وإرغام الاسد على مغادرة الحكم كما حدث مع المالكي، كما تحاول ايران استغلاله للتحالف مع الغرب في حربه ضد السنة الموصوفين بالارهاب، لكن معضلة التخلص منه بعد تأدية ادواره تؤرق الجميع، فـ"داعش" ليس تنظيماً أو قوة عسكرية، بل فكرة ومفهوم، ناتج عن لا عدالة مورست بحق أمة بأكملها، ووفق هذا التصور لن يكون ممكناً قتل "داعش"، بل سيجري دفنه حياً تحت أساسات نظام إقليمي مستقر بتوافق فرقائه، مع التهديد الدائم بمعاودة الظهور في أي لحظة تهتز فيه تلك الأساسات، أو يعبث بها طرف من الأطراف.


أما اسرائيل فإنها لم تعد شرطي الشرق الأوسط الأخرق، هي اليوم الجار الذي قطن الحي حديثاً، ويقف متفرجاً على صراعات وخلافات السكان الأصليين وحساسياتهم وثاراتهم القديمة، وبُعيد غروب يوم لا بد أنه سيأتي، ستخور قواهم، ويتسللون إلى منزله تباعاً ليجهشوا بالبكاء على كتفه، ولربما يسلموه  دور مختار الحي، ليستكمل في عود على بدء، دوره كشعب مختار، شكل منذ زمن بعيد، قدر هذه المنطقة ومصيرها. اسرائيل صامتة حتى اليوم، والصامت يربح.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها