الأربعاء 2013/04/03

آخر تحديث: 09:18 (بيروت)

أنس شهيد التغريبتين

الأربعاء 2013/04/03
أنس شهيد التغريبتين
أنس عمارة
increase حجم الخط decrease
 
1- أبو مالك.. ثائر حتى مطلع الفجر
 
سيبقى إسم أنس عمارة (أبو مالك) محفوراً في ذاكرة السوريين والفلسطينيين طويلاً. ستتناقل الألسن روايات كثيرة عن الشاب الأسمر الذي رفض كل أنواع الجمود حتى أصبح التمرّد سمة لا تفارق طباعه وتصرفاته.
 
يستحق أنس أن نكتب عنه مرة واثنتين وثلاث وألف،  ليس لأنه متمايز عن بقية الشهداء وليس لأنه فلسطيني وسوري على السواء، على العكس تماماً،  يستحق أنس أن نرثيه بلوعة وحسرة لأنه كان بسيطاً يعمل في الظل، لا يحب الأضواء ولا التصريحات، كان شاغله الأهل والأحباب في مخيم اليرموك والجوار.
 
أنس، الشاب الفلسطيني المولود في اليرموك، ابن الثالثة والعشرين ربيعاً كان يدرس الحقوق في جامعة دمشق، اختار أن ينحاز "لمن هم تحت"،  وهو ابن الجبهة الشعبية منذ حوالي تسع سنوات،  فضّل في الفترة الأخيرة الإبتعاد عن الجبهة ومواقفها تجاه ثورة الشعب السوري.
 
قرّر أنس أن يكون سورياً وتالياً فلسطينياً  وكان للإيثار الذي فرضته سوريته الحاضرة المنتفضة، أملاً بفلسطينيته المحررة مستقبلاً. خرج أنس من عباءة التنظيم إلى الأفق الأوسع،  إلى رحاب الإنسانية ليلتحم بمعاناة السوريين والفلسطينيين من جرحى ومصابين ونازحين ومحتاجين. لم يتوان يوماً عن السفر من مدينة إلى أخرى لتأمين الدواء والخبز والطحين،  ولم يكن الموت شغله يوماً بقدر ما كان يخاف من الإعتقال أو الإعاقة. كنت قد سألته مرة في إحدى المحادثات "يعني رح تستشهد؟" فردّ فوراً "انشالله،  ما بخاف من الموت بخاف من شغلتين الإعاقة والإعتقال".
 
 لم يكن أنس عمارة سوى ذلك الفتى الحالم،  الذي أراد أن ينجز الحلم بذاته فانخرط في الثورة الشعبية منذ يومها الأول وانتمى إلى يسار قال عنه يوما انه "يسار الشارع" الذي يأبى التبرير والمحاججة استناداً إلى بديهيات ومسلمات كنا قد قرأنا عنها في الكتب وحفظناها عن ظهر قلب في جلسات التثقيف الحزبية.
 
رأى أبو مالك في الأحياء الشامية تماثلاً مع الأحياء المقدسية،  وكان المخيم بالنسبة إليه أصلاً ثابتاً في حكاية الثورات، وكانت المعونة الإغاثية التي يعمل على إيصالها من حي إلى حي لإطعام محتاج أو معالجة مصاب،  تشكّل الصورة الأوضح التي يكابدها فلسطينيو الداخل في غزة والضفة. لم يكن أنس منفصلاً عن واقعه الفلسطيني،  لكنه أسّس لرؤية الواقع بعين سورية وأخرى فلسطينية على مبدأ أنّ للحرية جسد واحد ولا إمكانية لمستبد أن يحرّر أرضاً،  وحدها الشعوب تتحرّر لتحرّر،  وحدها الشعوب قادرة على تحقيق الحلم.
 
2- "منمشي ومنكفّي الطريق"
 
صورة أنس الذي يجول في شوارع المخيم وهو يحمل قنينة لبن (عيران) وجريدة أو كتاب لعلي الوردي لا تفارق ذهني. وكلما تبادر إليّ حدث سوري يتعلق بالشام والجوار تذكرت أنس وهو يقطع الحاجز تلو الآخر،  يحمل كيس الأدوية وأرغفة الخبز ليوصلها إلى المحتاجين.
ابتسامته الجميلة الدافئة، وحيويته في شارع سوق الخضرة في الحجر الأسود، وتفانيه اللامتناهي في مساعدة الآخرين، روحه الطيبة التي امتزجت مع وعي قل مثيله في حاضرنا الشبابي، سيبقي أنس أيقونة للشاب الفلسطيني الذي رفض التخاذل وهبّ لينصر شعبه السوري والفلسطيني على السواء،  وسيغدو أنس مثالاً في النضال.
 
في أول نيسان رحل أنس،  حقيقة صنعتها الأيام السورية القاسية كنا نودّ أن نكذبها ليوم آخر.. استشهاده كان الحقيقة الوحيدة في زمن يوصف به انس وامثاله بـ"مقاتلين أجانب" و"أفغان" و"شيشان"،  زمن تعطي فيه "مناضلة" سابقة دروساً في فهم المنطق الحاصل،  ويقوم فنان "شيوعي" من زمن الردة التقليدية ليتغنى بالمخابرات السورية دون أن تهزه صور القتل والتدمير.. زمن قبيح خذل به اليسار الكلاسيكي شارعه وشعبه وارتضى ان يكون في صف الطاغية، زمن رفضه أنس ليؤسس ليسار خاص به،  آمن بمبادئه واستشهد في سبيلها ليقول للرفاق: وما زال في الدرب درب وما زال في الدرب متّسع للرحيل.
 
وأنت تمر بشوارع اليرموك ستسمع صوتاً رخيماً يمزّق أسدال الظلام،  يدخل أحشاءك وتظل به مسحوراً.. صوت أنس الذي رمى الكثير من الورود ليصل إلى وردة في الجليل.
 
increase حجم الخط decrease