جنة العماء السورية

راشد عيسى
الإثنين   2013/03/11
 أجمل خبر صحافي قرأته في حياتي حمل عنوان "صدمة الإبصار المفاجئة تربك كفيفاً سابقاً". الخبر كان يصف حادثة واقعية، لكن الحادثة نفسها كانت آسرة بحيث جعلت من الخبر الصحافي قطعة أدبية راقية. قصصت ذلك الخبر، وألصقته في دفتري محتفياً به كما يليق، ورحت أتخيل كيف يمكن له أن يأخذ مجرى بصرياً ما، فيلما سينمائياً، أو عملاً مسرحياً، أو ما شابه. 
سنوات مرت قبل أن أعثر على الفكرة في فيلم سينمائي إيراني عرض في أحد مهرجانات دمشق السينمائية، وحمل عنوان "شجرة الصفصاف" من إخراج مجيد مجيدي. ورغم أن الإخراج ليس مهنتي واختصاصي فقد تذكرت تلك القاعدة الذهبية من كتاب "ست وصايا للألفية القادمة" لإيتالو كالفينو، التي تقول حينما تبدأ بالتفكير بكتابة مقالك يكون غيرك قد بدأ بطباعته بالفعل. 
الخبر كان يتحدث عن رجل عاش عقوداً من عمره كفيفاً قبل أن يجري عملية جراحية تعيد إليه رؤية كان فقدها طفلاً. وعلى غير ما يتوقع المرء كان الإبصار المفاجئ صدمة مربكة وهائلة في مسار حياته، وبدل أن يتنعّم الرجل بنعمة النظر كان ذلك أمراً مدوخاً بالنسبة له، ولم يحسن التصرف مع نعمة الرب المتأخرة. 
كذلك كان الفيلم الإيراني يتحدث عن أستاذ جامعي أعمى يستعيد بصره بعد عملية جراحية يجريها في باريس، وهنا يعيش حياة ملأى بالاختلال والتضارب، بعد تلك السكينة التي كانت تأتيه من عالمه الصغير الذي يطل عليه من شرفته، وأصوات الطبيعة، وأصوات ابنته. كان الرجل يعيش ما يسميه مخرج الفيلم "جنة العماء"، حيث لا وجود أبداً في عقله إلا للجمال، لا وجود للقبح، على ما يقول.
لا أدري إن كان وصف "جنة العماء" صالحاً للحديث عن تلك "الجنة" التي اكتشفها بعض السوريين أخيراً، بعدما فعل النظام ما فعل، من قتل وتشريد واغتصاب واعتقال وتنكيل، بل ومن فنون تعذيب ربما لم يشهدها شعب من قبل. كثيراً ما نسمع اليوم مديحاً لحياتنا السابقة في ظل النظام. بات مألوفاً أن نسمع مديحاً لسهولة العيش، ورخص الأشياء، الخبز المدعوم، مجانية التعليم، الطبابة، المواصلات العامة، عودة الصبايا إلى بيوتهن في ساعة متأخرة، وحتى نظام المرور الصارم الذي لم يكن ليسمح للمرء أن يتحرك من غير حزام الأمان، حفاظاً على حيواتهم الثمينة.
لقد ساهم وضع السوريين الجديد، الرهيب والمؤلم، الوضع الذي لم يكن في الحسبان، في دفع كثيرين منهم، خصوصاً من يسمون بالأغلبية الصامتة أو المحايدة، إلى التحسر على نهر الحياة المنساب بسهولة. إنه جحيم الخيمة، في الزعتري أو سواه، الذي حوّل ماضي السوريين الرهيب إلى فردوس.
لا يريد هؤلاء أن يتذكروا كم كان النهر آسناً، وكم أن استقرارهم كان على حساب الأفواه المكممة، والذين قضوا في معتقلات النظام. نتذكر هنا عبارة الشاعر الراحل محمد الماغوط في إحدى مسرحياته الشعرية، حين يقول سجين سياسي للطلقاء "أنتم هناك لأنني هنا". كانت الحياة تسير بيسر لأن الآلاف كانوا يدفعون الثمن في مكان آخر، ولا أدري ما يمكن القول لهم ولعائلاتهم عن الجنة السورية المزعومة.
قوانين السير وجدت من أجل رفع سعر الرشوة. مجانية التعليم أودت بالمستوى التعليمي، وأوصلت الخريجين إلى أسوأ مستويات تعليمية. أما المشافي العمومية المجانية فلا يخفى على الجميع أنها كانت أقرب إلى مسالخ لا مشافي، وإذا صدف أن كانت الخدمة مقبولة في إحداها فقد كان على المواطن أن ينتظر دوراً طويلاً لإجراء عملية مكلفة، سيفضل المرء أن يعود بمريضه إلى المشافي العامة قبل أن يموت في غرف الانتظار.
نسي هؤلاء أن الجزيرة السورية شمالاً، أو ما كان يسمى ذات يوم بكاليفورنيا الجديدة، باتت جفافاً وأراضي متشققة غادرها أبناؤها إلى ريف دمشق، أو درعا، ليسكنوا الخيام. كما هاجر قبل ذلك أبناء الريف الحلبي والإدلبي إلى بيروت للعمل في أعمال البناء القاسية، وأُجراء هنا وهناك. نسوا أن نسبة كبيرة من السوريين عاشت تحت خط الفقر، وأنهم كانوا يبحثون عن لقمتهم في حاويات القمامة.
كل ذلك كان يمكن أن يقبله السوريون لو أنهم حظوا بشيء  من الكرامة، ولا أدري طبعاً كيف تكون الكرامة فوق حاوية القمامة أصلاً، ولكن نعرف جميعاً أن ثورة السوريين لم تكن إلا من أجل الكرامة، ومن هنا جاء شعارها الأول والأشهر "الشعب السوري ما بينذل". فكيف حدث أن نسي بعض السوريين أن ثورتهم قامت من أجل أطفال في درعا اقتلعت أظافرهم، ورجال أهينوا، ونساء سحلن في الشوارع. نعم، النساء اللواتي سُمح لهن بالعودة في ساعات متأخرة سحلن واعتقلن عند أول كلمة أو اعتصام وتظاهرة، حتى لو كن فقط يرفعن لافتة تقول "أوقفوا القتل". وصولاً إلى كل ما شاهدناه تالياً من رعب، رعب ينبغي أن يدفعنا للتأكد من أن الثورة كانت فعلاً ثورة حق، وأننا كنا نعيش في جحيم نظام لا يحتمل، وأن الجنة المفقودة لم تكن سوى عماء وحسب.