عفو شقيق زينب زعيتر عن قاتلها.. والحاضر يعلم الغائب

زهراء م.الديراني
الإثنين   2023/03/27
الحاضر في جريمة قتل زينب زعيتر، الزوجة والأم لثلاثة أطفال، هو صورة يتيمة لها، وحادثة مروية عن مصادر وشهود عيان، وشقيق يعفو عن زوجها القاتل.. والغائب، حكماً، هو الرواية الرسمية، وبيان القبض على القاتل واخضاعه للمحاسبة، وأصوات النساء المعنيات بالجريمة: أُمّ الضحية، شقيقاتها، رواية عائلتها، صوتها.. أي تفصيل آخر يبدد الالتباس. 

لا صوت آخر في الرواية المكتومة. وحده صوت الشقيق، ورجال العشيرة، وصورتهم لحظة افتتاح المقهى مرة أخرى، يظهر من الحادثة. صوت عائلتها مكتوم، تماماً كما كان صوتها قبل تنفيذ حكم الإعدام بها، بعشر رصاصات، فجّرت إحداها رأس زينب وعينها.
 

ليتصور اللبنانيون انقلاب الرواية. ماذا لو ظهرت زينب زعيتر مع صديقاتها وجيرانها من النساء في فيديو يعلن فيه على الملأ، أنهن نفّذن "حكم القتل" بالزوج، وطالبن في الختام بإنهاء القضية، بدلاً من شقيقها وأصدقائه وجيرانه من الرجال؟ 

من الطبيعي أن يكون مقطعاً مصوراً كهذا صادماً، فالنساء في منظوماتنا الاجتماعية والثقافية لسن عادةً القاتلات، وبالطبع لن يعلنّ عن جريمتهن أو موافقتهن على جريمة نالت من روح فرد من عائلتهن. 

سيبدو الأمر صادماً ومستهجناً وقبل كل شيء خارجاً عن المألوف، بل ستُلاحق النساء الظاهرات في الفيديو، بتُهم لا تقف عند التشجيع على القتل، وحماية القاتل(ة)، بل تتعداها إلى تشويه صورة النساء والعائلة والمجتمع اللبناني.

لكن انقلاب الأدوار في لبنان غير متاح. في مجتمع ذكوري، يعلو فيه صوت القبيلة فقط، ظهر شقيق زينب زعيتر في فيديو، مع أصدقائه وأقربائه في منطقة الشويفات في بيروت، ليعلنوا حكماً رجالياً صارماً بانتهاء قضية مقتل زينب على يد زوجها المتواري عن الأنظار. وفي الفيديو يبرّئون القاتل ويثنون على جريمته، وكأنهم يدعون الرجال كلهم إلى حذو حذوه، هو الذي يجب أن يمشي "ورأسه مرفوعة"، كما قالوا.
 

جاء الفيديو المصور بكاميرا هاتف ذكي، معلناً وبوضوح وبأصوات جهورية، عن مشهدين متكاملين: أولهما طاغٍ، وهو تغليب منطق القتل كقصاص يستند إلى تبريرات تبدأ بالشرف وتنتهي بالعشيرة، وهو منطق يتساوق مع ما نشهده من انسحابٍ للدولة وقوانينها وشرعيتها من المجال العام، ومن الخاص عندما يقتضي الأمر. 

وثانيهما خفي، حاضر بغيابه وتخفيه هذه الدولة، وهو مشهد النساء، الضحايا منهن أو الناجيات، بأصواتهن وبتعابير وجوههنّ وحركات أياديهن، وقبل كل شيء ما يمكن لهنّ أن يعلنّه عن آرائهن ومواقفهن ومعاناتهن في مجتمع لم يكفّ يوماً عن إسكاتهن وإخفاء ملامحهن.

يحتل الرجال في بلادنا مساحات السياسة والاقتصاد والريادة.. فبات من الطبيعي أن يحتلوا شاشات الهواتف وفضاءات الإعلام والتواصل الاجتماعي، بغض النظر عمّا يرتكبونه.
وصار من السهل على من يشبه شقيق زينب أن "يسوّق" لفعلته، وقد يجد بين مستخدمي/ات منصات التواصل الاجتماعي مَن يوافق على منطقه (قيل له أنها خانته فغسل شرفه بقتلها!). يبرر له ويعطيه الأعذار، لاسيما عندما يجد هذا المنطق تبريراً مدعّماً بمقولات يحنّ إليها الكثيرون اليوم بمواجهة ثقافة حقوقية جرت شيطنتها بحجة أنها مستوردة وغربية ولا تلائم مجتمعاتنا العربية التقليدية.

ربما رغب الظاهرون في الفيديو في استعادة صورة مُنادي الوالي، ذلك الرجل الذي شاعت مهنته قديماً، فكان إعلاميّ الحاكم الذي يُطلع الناس على أوامره وآخر الأخبار والمستجدات، فيطوف شوارع المدينة أو القرية بما لديه من أخبار، خاتماً بعبارة "الحاضر يعلم الغائب".

وللمفارقة يبدأ فيديو زعيتر بهذه العبارة، لكنها لا تكون هي نفسها الأخيرة. وكأن المنادي أيقن أن غائباً ما لن يصله هذا الفيديو. وربما تكون زينب هي هذا الغائب الأوحد. 

وهكذا جمع فيديو الاعتراف "العلني"، بين ما يبدو للوهلة الأولى تناقضاً، بين القبيلة والتكنولوجيا، بين الفحولة و"التمدن" في الهيئة واللباس. لكن التناقض الظاهري هذا، سرعان ما يستحيل توافقاً في مجتمع لم يستطع الانتقال إلى عصر جديد، وتثقل كاهله موروثات يلجأ إليها لتبرير عنفه كأداة وحيدة لإثبات ما في مخيلته من فحولة وقوة.

وفيديو حسونة زعيتر وأصدقائه، يثبت أن الحدود اللبنانية بين الريف والمدينة شديدة الالتباس: فإذا كنّا نتوقع تباينات اجتماعية وثقافية بين الريف والمدينة، فالفيديو ألغى توقعاتنا، أو على الأقل خفّضها، وأثبت واقعاً اجتماعياً هو في جوهره ترييفٌ حقيقي لمدينة متخيّلة. وبموازاة هذا الترييف تغييبٌ إضافي لنساءٍ كان من المفترض أن تكون المدينة ملاذاً لهن. لكن ما أبداه الفيديو جعل من هذا الافتراض وهماً.

هكذا وقعنا نحن مشاهدي/ات الفيديو على خسارتين: الأولى زينب بالصوت والصورة، وهي تقول ما تريد وتصرخ مطالبةً بالعدالة. والثانية هي أيضاً زينب المدينة التي تحمي حقها وحقنا في الحياة. 

"هذا الموضوع مُنتهٍ". تكاد تكون هذه العبارة الواردة في الفيديو، والتي تردد صدى مقولة "عفا الله عما مضى"، تكثيفاً لمنطق السلطات الطائفية والعشائرية والذكورية الرجعية المتكلة على فوقيةٍ واستعلاء و"هيبة" تتغذى على أجساد مَن لا حول ولا قوة ولا صورة له، وبالأخص النساء.