سليم صفير: "مجنون" على رأس جمعيّة المصارف

علي نور الدين
الجمعة   2022/06/24
من سمح لصفير برفع سقف المواجهة مع الحكومة وصندوق النقد؟ (المدن)

منذ وصوله إلى رئاسة جمعيّة المصارف في صيف العام 2019، بدا واضحًا أن سليم صفير اختار تسويق نفسه كصقر من صقور جمعيّة المصارف. هو صاحب مقولة "أقطع يدي ولا أسمح بشطب رساميلنا"، رفضًا لتحميل رساميل المصارف جزءاً من الخسائر المتراكمة في ميزانيّات القطاع. وهو من سوّق شعار "ارفعوا يدكم عن المصارف"، في مواجهة أي محاولة لفرض عمليّة إعادة رسملة قد تفضي إلى دخول مساهمين جدد إلى القطاع. وفي كل ذلك، اختار صفير أن يفرض على جمعيّة المصارف بأسرها مقاربته للأزمة: التعنّت في مواجهة الجميع على كل الجبهات. في وجه المودع حين يطالب بحقّه، وفي وجه الدولة حين تحاول وضع خطط قابلة للتسويق أمام المجتمع الدولي وصندوق النقد، حتّى لو كلّف هذا التعنّت ترك البلاد أسيرة السقوط الحر في المجهول.

صفير يتفرّد بالجمعيّة
بخلاف آخرين من "حمائم جمعيّة المصارف"، يمثّل سليم صفير مجموعة من المصارف المهترئة، التي لا تملك قدرة إعادة الرسملة، إلا بإدخال مساهمين آخرين يمكن أن يستحوذوا على أغلبيّة الأسهم، وهذا ما لا يريده صفير ومن يشبهه. وبخلاف "حمائم الجمعيّة" التي تؤمن بالحلول الوسط، لأن مصالحها وتركيبة مصارفها تسمح لها بذلك، لا يملك صفير والمصارف المصطفّة خلفه إمكانيّة الدخول في حلول رصينة قابلة للتطبيق، من قبيل شطب نسبة من الرساميل أو إعادة تكوين الأموال الخاصّة. هنا، يصبح تطرّف صفير ومَن خلفه من "صقور المصارف" مجرّد شكل آخر من أشكال العجز. العجز الذي يدفع هذه الثلّة المصرفيّة إلى عرقلة جميع الحلول، لإبقاء الوضع على الحال الذي كان عليه طوال السنتين الماضيتين: "مصارف زومبي" ترفض تحديد الخسائر، وترفض التعامل معها، مهما كانت كلفة المسألة على الاقتصاد المحلّي والمجتمع.

هكذا، "أمّر صفير نفسه" وكتب بيان الحرب على خطّة حكومة ميقاتي، التي نتجت عن المحادثات الأخيرة مع صندوق النقد، من دون استشارة أعضاء جمعيّته الذين رفض الكثير منهم مضمون البيان. وبين سطور البيان، كان من الواضح أن ثمّة أصابع سياسيّة ماكرة وضعت بصماتها على خطاب جمعيّة المصارف المستجد: استسهال التصويب على نائب رئيس الحكومة بوصفه الحلقة الأضعف، عبر إطلاق تسمية "خطّة سعادة الشامي" على الخطة الحكوميّة. والتهويل على المودعين، عبر الخلط عن عمد ما بين الاعتراف بالخسائر القائمة وتحديدها، ومسألة شطب الودائع. باختصار، كان البيان أشبه ببيان تعبوي شعبوي تصعيدي، كتلك البيانات التي احترفت الميليشيات اللبنانيّة كتابتها على هامش معارك الزواريب خلال الحرب الأهليّة، بدل أن يرتقي البيان إلى حساسيّة الأزمة ونوعيّة النقاش الاقتصادي المطلوب لمعالجتها.

حرق المراكب: لمصلحة من؟
امتعضت الكثير من المصارف من بيان الجمعيّة يومها. من سمح لصفير برفع سقف المواجهة مع الحكومة، ومن خلفها صندوق النقد والمجتمع الدولي بهذا الشكل؟ في الأصل، جميع المصارف تريد التفاوض لتقليص قدر الخسائر التي ستحملها، لكن من قال لصقر جمعيّة المصارف أن جميع أعضاء الجمعيّة يقبلون بحرق المراكب على هذا النحو، والمضي في المعركة على قاعدة البحر من أمامكم والعدو من ورائكم؟ في أروقة جمعيّة المصارف، ثمّة من بدأ يهمس: أسلوب صفير خطر علينا. خطر على صورتنا أمام الرأي العام، وأمام صندوق النقد والمجتمع الدولي. وخطر على مسار المفاوضات الذي يجب أن تُزان موازينه بميزان الذهب.

وفي أروقة جمعيّة المصارف، ثمّة من بدأ يدرك سريعًا: مصالحنا كمصارف لا تشبه بعضها. بيننا المفلس وغير القادر على إعادة الرسملة، وها هو يريد تحميلنا جميعًا كلفة الحروب التي تستهدف إبقاء الوضع الراهن على حاله. وبيننا من يريد التفاوض لتقليص الخسائر، لكن من دون حرق المراكب كما يفعل صفير. وبدأ الفرز يظهر سريعًا: هناك الراضي وهناك الممتعض، وهناك من في فمه ماء.   

لم يكترث صفير كثيرًا بموازين جمعيّة المصارف الداخليّة. حين يتعلّق الأمر برساميل المصرف الذي يمتلكه، تصبح المسألة مسألة وجوديّة، مسألة حياة أو موت، قبل أن تكون مسألة أخلاقيّة أو مسألة رأي عام. ألم يقل بنفسه "أقطع يدي ولا أسمح بشطب رساميلنا"؟ هكذا تُترجم المقولة حين تكون في موقع القرار. ولذلك، مضى بعيدًا بتفرّده وتعنّته، وخططه لتكرار سيناريو إسقاط خطّة لازارد سنة 2020، أي سيناريو إسقاط الخطّة الحكوميّة من دون أي بديل، لمجرّد تأبيد الوضع الراهن ورفض تحمّل الخسائر. وداخل جمعيّة المصارف، كان هناك من يشجّعه. فالمصارف الأقل قدرة على إعادة الرسملة، والأكثر استعدادًا للذهاب نحو سيناريوهات الجنون التي يريدها صفير، تمثّل أغلبيّة أعضاء الجمعيّة، ولو كانت الأصغر حجمًا قياسًا بالمصارف "المتعقّلة".

نفس إجرامي في مراسلة صندوق النقد
وصل الأمر إلى حد الجنون البحت هذا الأسبوع، حين كلّف صفير مستشار الجمعيّة كارلوس عبادي بصياغة الرسالة الأخطر التي يتم توجيهها مباشرةً إلى صندوق النقد. تريد جمعيّة المصارف بيع الذهب في مصرف لبنان، لتأمين 15 مليار دولار. ومن ثمّ الاستحواذ على ما قيمته 20 مليار دولار من أملاك الدولة، لوضعها ضمن صندوق سيادي يخصص لإطفاء الخسائر. مع الإشارة إلى أن هذا المبلغ يعني السطو على كل ما تملكه الدولة من مؤسسات عامّة وعقارات ومرافق من دون استثناء. كما تطالب المراسلة بسداد 30 مليار دولار من الودائع بالليرة، ما يعني التوسّع بتضخيم الكتلة النقديّة بنحو 16 مرّة للقيام بهذا الإجراء.

كان من الواضح أن هناك نفساً إجرامياً في تلك المراسلة، بما يعكس حقد مكتوم على المجتمع والبلاد بأسرها، بل وبما يعكس رغبة بشن حرب شعواء على الناس بكل تلاوينهم وفئاتهم. مراسلة تطلب السطو على ما تبقى من ثروات المجتمع، وذهب مصرف لبنان، وضرب قيمة الليرة ومعها أجور اللبنانيين وقدرتهم الشرائيّة، لمجرّد تفادي تحميل رساميل المصارف أي قدر من الخسائر. ما طالبت به الجمعيّة هنا هو خنق المجتمع لعقود من الزمن، والإجهاز على أي إمكانيّة للنهوض الاقتصادي في المستقبل.

الجنون البحت: ابتزاز صندوق النقد
بالتأكيد، كان من الواضح أن صندوق النقد لن يرى في هذه المراسلة، من النواحي الماليّة والنقديّة والاقتصادية، سوى هراء لا يستحق النقاش أو التفاوض، إلا من زاوية الاستهزاء بالمستوى الذي يمكن أن تصل إليه الأوليغارشيا المتحكمة بمفاصل النظام المالي. إلا أنّ عبادي حرص على تضمين المراسلة ابتزازاً موصوفاً للصندوق، من خلال الإشارة إلى عدم دستوريّة مندرجات التفاهم المبدئي ما بين الصندوق والدولة اللبنانيّة، في إشارة إلى قدرة الجمعيّة على عرقلة التفاهم في مجلس النوّاب لاحقًا، كما جرى مع خطة لازارد. كما أشار عبادي إلى قدرة الجمعيّة على العرقلة، من خلال نسبة الأصوات التي تملكها من بين حملة سندات الدين السيادي، والتي تعطيها القدرة على عرقلة أي تفاهم على إعادة جدولة الديون السيادية.

إنه الجنون إذًا. لم ينادِ أحد بتقديس شروط صندوق النقد أو مطالبه، لكن صفير يعلم جيّدًا أنّ هذا المسار يمثّل الرهان الوحيد الذي وضعته الحكومة على الطاولة. وصفير يعلم جيّدًا أن الإطاحة بالخطة المتفق عليها مع الصندوق لا تندرج في إطار وضع خطّة أفضل أو أكثر عدالة، بل في إطار تطبيع الوضع الراهن، لمجرّد التهرّب من تحديد الخسائر والتعامل معها. وصفير، يعلم جيّدًا أن تحقيق مراده سيعني أطلاق العنان للسقوط الحر من دون أي رؤية أو خطة ماليّة، تمامًا كما جرى بعد إسقاط خطّة لازارد سنة 2020.

ومجددًا، من بين أعضاء الجمعيّة، هناك من امتعض وهناك من استنكر، كحال مصرفي عودة والموارد.. وهناك –مجددًا- من في فمه ماء. بالنسبة إلى الحكومة اللبنانيّة، قد يكون الوقت مناسبًا لفرز أعضاء جمعيّة المصارف، والتفاوض معهم بالمفرّق.