من صنع المعارضة السورية..لا يحق له رجمها

العقيد عبد الجبار العكيدي
الثلاثاء   2023/03/28
بالتوازي مع انعطافتها نحو إعادة العلاقة مع نظام الأسد، تُسوِّقُ العديد من الحكومات العربية في وسائل إعلامها، حشداً وافراً من التبريرات التي تهدف إلى تسويغ التحول أمام شعوبها والرأي العام عموماً.
لقد بات من الثابت أن السمة الغالبة على أي مسعىً تبريري، هي الانتقائية واقتطاع الفكرة أو الحدث من سياقه العام، والاكتفاء بالجزئيات التي تخدم المسعى المراد تحقيقه، ولعل من أبرز الذرائع الموازية للردّة العربية تجاه الأسد تتمثل بحرص الدول العربية على وضع حدّ لمعاناة الشعب السوري، والحفاظ على كيان الدولة السورية وسيادة أراضيها، وانتزاع سوريا من الحضن الإيراني، وتطهيرها من لوثة الاحتلالات التي باتت تهيمن على معظم الجغرافية السورية، إلى آخر ما هناك من سرديات لا يحتاج المرء إلى مزيد من التفكير ليدرك أنها جميعاً كانت في يوم ما، هي ذاتها الأسباب التي دعت تلك الحكومات إلى إعلان القطيعة مع نظام دمشق!
من الطبيعي التعجب هنا، عندما تصبح كل ذريعة دافعاً للقطيعة وسبباً للارتداد عنها في آن معاً! فالحرص على سلامة الشعب السوري -على سبيل المثال– كان يتجسّد في يوم ما، بالنسبة لبعض الحكومات العربية، برفع الظلم عنه وإنقاذه من سطوة جلّاديه، من خلال دعم السوريين في ثورتهم للتخلص من نظام الإبادة الأسدي. أما اليوم، فأصبح إنقاذ الشعب السوري عبر استئناف العلاقة مع الجلاد، والعمل على إعادة تدويره من جديد، وهكذا يتحول التهديد بمحاسبة الجلّاد في الأمس إلى مكافأة له اليوم.
ربما بات أمراً نافلاً أن يتحدث الكثيرون عن خلوّ السياسات العربية وغير العربية من المضامين الأخلاقية وارتهانها لمصالحها الأمنية بالدرجة الأولى، كما بات واضحاً لدى عامة الناس أن سمة الثبات في المواقف الدولية هي أمر محال في ظل تبدّل المصالح والتموضعات ضمن المحاور الإقليمية والدولية المتجددة، ولكن ما يبعث على الدهشة حقاً، بل على مزيد من الاستهجان، هو ما تعمد إليه بعض الأنظمة العربية الزاحفة نحو الأسد من تسويغات تكشف عن تناقض فظيع وتنكّر وقح لجرائر تلقيها على السوريين، في حين أن العودة إلى تلك الجرائر تكشف أن من أوجدها وعمل على نموّها واستفحالها داخل قوى الثورة والمعارضة هي تلك الأنظمة ذاتها ولا أحد سواها!
ما الذي يمكن قوله حين تتهم بعض الأنظمة العربيةِ المعارضة السورية بالتهافت والتشظي والفشل في تحصين القضية السورية، بل وبالفساد والارتهان وجميع الموبقات الأخرى، وتعد ذلك سبباً أساسياً في انتصار الأسد ووجوب عودته إلى محيطه العربي؟
لقد بلغ الاستخفاف في عقول السوريين درجة مريعة، وكأن السوريين هم من اختار تلك المعارضات بكافة أشكالها ووثقوا بها! أو كأن السوريين لا يعلمون بأن من قام بحل المجلس الوطني السوري هي الولايات المتحدة ودول عربية داعمة للثورة آنذاك، وأن الائتلاف قد تشكل بناء على رغبة إقليمية وعربية وغربية، كما وكأن السوريين لا يعلمون أن من فرض عليهم تلك المعارضات التي توصف بكل أوصاف السوء هي تلك الدول ذاتها التي تعيّر السوريين بها اليوم!
بل تذهب الأمور إلى أشد من ذلك، حين تتهم بعض الأنظمة العربية المعارضات السورية بالإرهاب وانخراطها في مشروع الإسلام السياسي، ويغيب عن بالها أن منشأ تلك التنظيمات الاسلاموية والمتشددة إنما جاء بدفع خارجي، وبالذات من تلك الدول ذاتها التي توجه الاتهامات اليوم..
لا يحتاج المرء إلى كثير من التفكير حول من كان يرعى ويموّل الفصائل المتناحرة في الغوطة الشرقية والريف الدمشقي، ومن كان يوجه لفصائل الشمال الأوامر ويرسم لها الأجندات، ومن كان يرعى ويمول جبهة النصرة وأحرار الشام والفصائل الأخرى المحسوبة على الجيش الحر، والتي أفشلت كل المحاولات لتأسيس جيش وطني على أسس وطنية ومهنية بعيدة عن الأدلجة، يقوده نخبة من الضباط المحترفين اللذين انشقوا عن جيش الأسد وانحازوا الى الثورة للدفاع عن أهلهم، كما لا يغيب عن بال أحد أيضاً، أن تلك الفصائل التي كانت تدعمها وترعاها دول عربية يهرول بعضها للتطبيع اليوم، كانت لديها القدرة الكافية على إحداث فوارق نوعية في المعارك، ولكن لم يكن مسموحاً لها أن تطلق رصاصة واحدة دون أوامر الداعم.
لعله من الصحيح أن المعارضات السورية الرسمية بكل أشكالها (ائتلاف وهيئة تفاوض ولجنة دستورية)، قد عملت وفقاً لأدوار وظيفية رسمتها لها دول خارجية، ولم يكن عملها منبثقاً من محددات المصلحة الوطنية السورية، ولكن لعله من الصحيح أيضاً، أن الدول التي تعيّر السوريين بمعارضاتهم الهزيلة هي نفسها من قام بتصنيع تلك المعارضات وفرضها على السوريين.
تدخلات القوى الدولية والإقليمية في القضية السورية والعبث بها، وصراع المحاور الذي كان له دور كبير في تشتيت قرار المعارضة السياسية والعسكرية والمدنية واصطفافاتها وتموضعاتها المختلفة والمتبدلة مع تلك القوى، لا يبرر الأخطاء التي ارتكبتها هذه المعارضة التي قبلت على نفسها أن تفقد استقلاليتها وتتموضع تارة مع هذا المحور وتارة مع محور مضاد، دون أن تتجرأ على الخروج عن سقف محددات تلك المحاور، بالإضافة إلى أنها فوتت الكثير من الفرص لإعادة بناء نفسها وتجميع قواها المبعثرة، وتقديم نموذج للحوكمة يطمئن الدول الشقيقة والصديقة أنها قادرة على أن تكون البديل عن نظام الأسد.
لقد فاتت فرص كبيرة لإعادة ترتيب البيت الداخلي لقوى الثورة والمعارضة في الداخل والخارج، ولم تستجِب المعارضة لكل النداءات والمطالب التي عبّر عنها الحراك الثوري في الداخل وشخصيات وطنية مستقلة من أجل إعادة بناء مؤسسة الائتلاف، وأصرت على التمسك بطريقتها الفاشلة في إدارته وإدارة الأجسام التابعة له، كي تحتفظ بعض الشخصيات التي تسيطر على هذه المفاصل بأدوارها ومصالحها الشخصية، فهل من صحوة قبل فوات الأوان في ظل تهافت بعض الدول لخطب ود الأسد وإيران؟