الخميس 2014/11/13

آخر تحديث: 14:29 (بيروت)

جوناثان كرينر: التاريخ المدرسي اللبناني يفترض وطنا غير محسوم

الخميس 2014/11/13
جوناثان كرينر: التاريخ المدرسي اللبناني يفترض وطنا غير محسوم
اختبرت عند الكثير من اللبنانيين فهما سلبياً وانتقاصياً لمفهوم العلمانية (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

جوناثان كرينر (Jonathan Kriener) أستاذ جامعي في "جامعة الرور" في بوخوم في ألمانيا (Ruhr-Universität Bochum)، منذ العام 2007، وعضو في معهد الدراسات الشرقية والاسلامية، يعمل حالياً على مشروع بحثي مشترك حول "التأثير والتأثر المحلي والإقليمي والدولي في العلوم الاجتماعية في الجامعات المصرية واللبنانية"، وكان قد نشر في العام 2011 بحثاً عن المفاهيم العلمانية والدينية للدولة والمجتمع في المدارس اللبنانية بعنوان "Lebanese – But How?"، وتتركز أسئلة هذه المقابلة التي أجرتها "المدن" مع كرينز، بشكل رئيسي، حوله.


لماذا اخترت لبنان كحالة لدراسة مفهومي الدولة والمجتمع في نظامه التعليمي؟
اخترت لبنان بسبب تعدد سكانه دينياً وسياسياً. إذ ليس فيه طائفة تفوق الطوائف الأخرى عديداً، كما هو الحال في سوريا، مثلاً، أو في مصر أو اسرائيل أو اسبانيا وبلدان أخرى كثيرة. وهو ربما يشبه من هذه الناحية العراق والبوسنة والهرسك الى حد ما. وعادة تختلف الدول فيما بينها من حيث تصورها للتاريخ المشترك، مثل العرب واسرائيل أو الصين واليابان أو بلدان أوروبا الشرقية والغربية في زمن الحرب الباردة. بينما تنجز الدولة الواحدة تكويناً سردياً موحداً، في درجة معينة، للتاريخ الوطني في أغلب الأحيان، وهذا ليس حال لبنان. وليست مصادفة، إذاً، أن إنتاج الكتب المدرسية في لبنان ليس محصوراً في جهة واحدة، أي مؤسسة مركزية مثل وزارة التربية، كما هو الحال في أغلب الدول العربية الأخرى، بل تنشر الكتب المدرسية في لبنان مؤسسات مختلفة، دينية، أو خيرية وتجارية أيضاً. ولذلك إفترضت -وحقاً، كما تبين لاحقاً في نتائج دراستي- أن لبنان يثير الإهتمام أكثر من مجتمعات أخرى، من حيث مؤسساته التعليمية وتوصيفها للتاريخ، الثقافة والسياسة الوطنية.


هل اختلفت التوجهات التعليمية في مرحلة ما قبل الطائف عمّا بعده؟
أجل. أولاً لم تفرض الحكومة اللبنانية قبل الطائف أي منهج أو مادة على المدارس. لكن أتفق في وثيقة الطائف على إصلاح تربوي ومن ضمنه توحيد مناهج مادتي التاريخ والتربية الوطنية. هكذا، اشتغلت في التسعينات لجان مختصّة في كتابة هذه المناهج. وفعلاً انتهى العمل إلى منهج وسلسلة كتب مدرسية موحدة لمادة "التربية الوطنية والتنشئة المدنية". فاليوم مفروض على كل المدارس في لبنان، حكومية كانت أم خاصة أو دينية، أن تعلم تلامذتها هذه المادة بواسطة هذه الكتب. أما مادة التاريخ فانتهى النقاش حولها بصراع عاصف على بعض مفاهيمها المركزية، ما أدى إلى منع الكتب التي نُشرت لتعليم هذه المادة في السنوات ما بين 1998 إلى 2000 بمرسوم وزير التربية والتعليم في وقتها عبد الرحيم مراد.

ثانياً مع نشأة الإسلام السياسي الشيعي والدولة الإسلامية في إيران بدأت تتدفق إلى لبنان كوادر ومنظمات مجهزة بهذه الذهنية وبأموال لا بأس بها. ومنها منظمات "جهادية" مثل كتائب "أمل" ومن بعدها ما عرف بـ"حزب الله"، ومنها أيضاً جمعيات مرتبطة بهذه المنظمات توفر خدمات خيرية وتربوية، مثل "المبرّات الخيرية" التابعة للسيد محمد حسين فضل الله و"جمعية التعليم الديني الإسلامي"، "مدارس المصطفى"، "المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم"، مدارس المهدي ومدارس "أمل". وقبل إنشاء مؤسسة المبرات في العام 1978 لم يكن هناك مؤسسة تربوية خاصة بالطائفة الشيعية غير مدارس العاملية. والعاملية لم تكن تمارس نوعاً من التعليم الديني/ السياسي، مثل ما تفعله المنظمات الشيعية الأخرى وبعض المدارس السنّية أيضاً. كما أن التعليم الديني الذي كانت توفره مدارس العاملية قبل الحرب الأهلية لم يكن يختلف كثيراَ عن التعليم الديني في المدارس السنية، لأن المجلس الأعلى للمذهب الجعفري في لبنان لم ينشأ قبل العام 1966، وقد أخذ وقتاً حتى بدأ يهتم بالمسائل التربوية. وفي المدارس التي أنشئت منذ الثمانينات يوجد توجه في التعليم الديني وتعليم التاريخ يشير الى أن اليهودية والمسيحية -والديانات غير التوحيدية طبعاً- ديانات خاطئة وقد جاء الإسلام لاصلاح زيفها، وأن عدم لبس الحجاب عند الاناث يعد سببا لتفكك الأسرة وسبباً لما يُسمى، عندهم، إنحرافات كالإدمان والمثلية والتي، بحسب هذه الكتب، موجودة في المجتمعات الغربية أكثر بكثير من وجودها عند المسلمين، وغير ذلك من التعاليم الساذجة والمتزمتة والمتطرفة (أنظر في كتابي ص157 و211 إلى 228). وبشكل عام، لا شك أن الكتب المدرسية في لبنان آحادية الأفق في أغلب محتوياتها، ولكن من الكتب التي قمت بتحليلها، وهي الأكثر إنتشاراً في مدارس لبنان، كانت الكتب "الشيعية" فريدة النوع نظراً إلى تطرفها.


هل يختلف بروز مفهومي الدولة والمجتمع بين المدارس الدينية والمدارس العلمانية؟
لا يوجد في لبنان، إلّا مدارس قليلة تصف نفسها كمدارس علمانية علناً وبوضوح. ولا ينتسب اليها أكثر من 2 أو 3 في المئة من طلاب لبنان (أنظر كتابي ص 81 إلى 82 و110 إلى 112). بصورة عامة لا أعتبر المدارس الحكومية في لبنان مدارس علمانية لأنها تتبع إلى دولة وحكومة غير علمانيتين. فمثلاً، إن كانت مدرسة حكومية تقع في منطقة ذات طابع طائفي آحادي فيحدث أن تُدرّس فيها ذات التعاليم ضيقة الأفق التي وصفتها من قبل. يعني التعليم في مدرسة حكومية يتعلق طابعه بذهنية إدارتها وطاقمها. كما أنني خلال دراستي اختبرت عند الكثير من اللبنانيين فهما سلبياً وانتقاصياً لمفهوم العلمانية. ذلك أن العلمانية محايدة دينياً وفلسفياً وإيديولوجياً وتحترم الإلحاد في المستوى نفسه الذي تحترم به بقية الرؤى الى العالم، فهم يخلطون العلمانية بالإلحاد ولا يدركون أنها بنزعها عن المؤسسات والشخصيات الدينية حق الإكراه والجبر بالقانون تتيح ممارسة الديانات وطرق الحياة المتعددة بحرية وإيمان صريحين للمواطنين كافة، (أنظر كتابي ص 36 بخصوص حزب الكتائب و105 إلى 107 بخصوص مدارس المهدي).

لذلك فان احتمال أن يكون بين مؤلفي المناهج والكتب المدرسية وصناع القرار أشخاص ذوو قدرة وإرادة في تفسير العلمانية تفسيراً محايداً أو حتى إيجابياً، يبدو شبه مستحيل. من جانب آخر، نادراً ما يوجد بين مؤلفي الكتب التي تستعمل في مدارس علمانية ومسيحية، وربما حكومية ودرزية أيضاً، من ينجح بإلقاء نظرة تجريدية الى دياناتهم وديانات غيرهم، أو بسرد وفهم الآخر بعباراته ومفاهيمه (أنظر ص 157 و219 و167). مع العلم أنني بنيت معرفتي عن التعليم المدرسي في لبنان على قراءة الكتب المدرسية وصفحات إعلانية وبروشورات وبضعة مقابلات مع شخصيات ممثلة للمؤسسات التربوية الموجودة في كتابي فقط. لو أمكن لي دراسة التعليم من خلال حضور حصص في المدارس نفسها لوجدت تعدداً أوسع بكثير مما لاحظته.


هل توجد في بلدان أخرى حالات مشابهة للحالة اللبنانية من ناحية مأزق توحيد المناهج، وخاصة مسألتي التاريخ والتعليم الديني؟
أعتقد أن حالة البوسنة والهرسك من أكثر الحالات شبهاً بحالة لبنان من ناحية التعدد الطائفي وشدة الحرب التي مرا بها. لكن يبدو أن الأوضاع في البوسنة قد إستقرت بعد الكثير من المبادرات الوفاقية المحلّية والأوروبية والدولية. بالإضافة إلى ذلك إنتظمت الدولة البوسنية بعد الحرب الأهلية حسب نظام فيدرالي سمح بإستقلال واسع لكنتوناتها من ناحية شؤونها التربوية. أقترح لتوسعة المعرفة حول التجربة البوسنية الاطلاع على هذه الدراسة


هل تمكن النظام التعليمي في لبنان، بتوجهاته المتعددة، من تشكيل هوية المواطن الفردية، والهوية الجمعية اللبنانية؟
بالركون الى الكتب المدرسية لمادتي التاريخ والتربية الوطنية يجب أن يحصل التلميذ اللبناني على إنطباع بأن لبنان هو وطن عظيم وفريد من نوعه، وكأن هويته كلبناني صفة هامة مدعمة لشخصيته. وفي الوقت عينه لا يعرف التلميذ نفسه الكثير من الوقائع التي أثرت تأثيراً حاسماً على حياته مثل وجود المذاهب المختلفة في وطنه وعاداتها وتقاليدها وآرائها الدينية والسياسية وقوانينها للأحوال الشخصية، والتي هي من العوامل الحاسمة التي تفرق بين الأفراد المواطنين المختلفين مذهبياً. وبالإضافة إلى ذلك تختلف التصورات بين الرؤى المعتمدة في سلاسل الكتب المدرسية إختلافاً شاسعاً في تقييمها الطابع المفترض للوطن. هل هو وطن له طابعه التاريخي الخاص الذي ترسخ في مساحته هذه، أم هو بمثابة جزء من الوطن العربي أو أمّة إسلامية نشأت الحدود بين أقطارها نتيجة أطماع قوى إستعمارية كانت وما تزال تسيطر على مصير شعوب المنطقة؟ وهل يقدر التلميذ الذي يدرس، مثلاً، في مدرسة إسلامية في طرابلس أو في الجنوب أن يتصور ماذا يتعلم زميله في "الإنترناشونال كوليج" في بيروت، أو بالعكس؟ لا أظن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها