الأربعاء 2015/03/04

آخر تحديث: 13:55 (بيروت)

"بوست-كليشيه"

الأربعاء 2015/03/04
"بوست-كليشيه"
يعرف أساتذة اللغة العربية أن ما يُكتسب من هذا التعليم لن يستعمل في أكثر حالات تلاميذهم (كتاب الصف الخامس)
increase حجم الخط decrease
يرتبط تطور الكتابة بتطور مؤسسات الدخول إليها، وما تنتجه من أدوات ونماذج. وهذا، في أوله، طُرح عند تعميم التعليم وامتلاك العموم للغة غير تلك المتداولة بينهم، مترافقاً مع تطور الأدوات الاستعمالية الكتابية نفسها، مثل الأوراق والأقلام. على أن ظهور مؤسسات دخول لاحقة على ظهور المدرسة، وهي مؤسسة اجتماعية، لم يعطل دورها المرجعي والنافذ في الانتاج، ولم يحقق بالضرورة تجاوزاً لما تعرّفه بأنه أدبي. 



(1) النص الأدبي
والتركيز على النص الأدبي، وحده، بدلاً من نماذج الكتابة الأخرى يحيل بدوره إلى المدرسة نفسها، التي في تخصيصها ساعات لما تسميه "مواضيع انشائية"، وفرض تقييم علاماتي عليها، تعززه وحده عند فاعليها الجدد (التلاميذ). وهذا على الرغم من ظهور نوع آخر، في المراحل التعليمية المدرسية العليا، هي المقالة. على أن هذا الظهور لا يرافقه، من ضمن العملية نفسها، تعليم لصيغ وأساليب جديدة. ففي تسميته فناً (فن المقالة) يحال بالضرورة إلى ما أكتسب، سابقاً، من معارف في "الكتابة الانشائية".

والحال أنّ هذه الكتابة الانشائية ليست غير نماذج مكررة، لما قرأه التلاميذ، في المناهج، لنصوص تغفل الكاتب، على الأقل في المراحل التعليمية الأولى. وهي تقوم على تسلسل خبري ووصفي لـ"الصور الأدبية"، أي البلاغة الوصفية، وهندسة صور فنية. مثل وصف بروز عرق فلاح قروي على جبينه، وتشبيهه بما يعطيه قيمته، ولا يشبهه. وهي أقرب إلى صور مُفارقة أو متضادة. وهذا، على ما يبرر الأساتذة لتلاميذهم، ما يجذب قارئهم ويوسع خياله. وما البلاغة غير ذلك؟


(2) المُكرر في الانتاج
يعرف أساتذة اللغة العربية، ومبرمجو مناهجها، أن ما يُكتسب من هذا التعليم لن يستعمل في أكثر حالات تلاميذهم. وهذا جزء أساسي من "عبثية" النظام التعليمي، باعتباره نظاماً سلطوياً. لكن هذه الاحتمالية الضعيفة صارت مُتجَاوزة في زمننا الحاضر. وهذا، اذا عدنا إلى السياق الأول، ما أنتجه ظهور مؤسسات اجتماعية أكثر حداثة تُنتج الكتابة أو تُتيحها، الفايسبوك مثلاً. اذ صار بإمكان معظم هؤلاء "التلاميذ" الكتابة، من دون خضوعهم لسطوة مباشرة من مهيمني المجال، ولا لمتطلبات الجماهيرية، أي وجود كتلة قراء مريدين. لكن هذه الكتابة لن تحصّل شرعية وجودها، داخل المجال، من دون تجاوز لمواقف سلبية ونمطية كثيرة. وأول ذلك طرح تصنيف لها داخل المجال، فلا شيء يوجد ويُعترف به من دون تسميته، وهذا فعل بشري أولي. وهذا هو الـ"بوست-كليشيه" (Post-Cliché)، على ما يمكن أن يُقترح.

والـ"بوست-كليشيه"، وهي تسمية للمُكرر في الانتاج، أساليب ولغة وموضوعات وصوراً، لا يحيل بالضرورة إلى مستوى واحد، بل بدوره ينقسم في داخله إلى مستويات واتجاهات جمالية متعددة. لكنه، أقله، يسعى لاحترام الذوق الفني/ الأدبي لمنتجيه، كما لمتلقيه، وهم صاروا كثراً. ذلك أن تطور الكتابة وأدواتها ووسائلها- وهو ليس بالضرورة تطور خطي في اتجاه واحد- يُطور حجم الكتلة الجماهيرية وذوقها، واستعداداتها للمشاركة في انتاجها أيضاً. ويلغي تصنيفاً سابقاً، لا يزال سائداً، للرفيع والهابط في المجال الفني. وفي حد واسع، ينقل السلطة التقييمية، وهي واجبة الحضور في الفنون، إلى المتلقين أنفسهم، بدلاً من سلطة النقاد أو مكرسي المجال.


(3) جروح ذوقية
وهذا ما يمكن اختباره، مثلاً، في الغناء. فهيفا وهبي لا تكتسب شرعيتها الفنية من نقاد سائدة معاييرهم، بل من احتشاد كتلة جماهيرية حول ما تنتجه. وفي مدى أبعد تنتج هذه الحالة الجماهيرية، ومُنتجو منتجاتها، نقاداً بمعايير خاصة لا يسببون لها، ولفاعليها، جروحاً ذوقية. وفي التصوير الفوتوغرافي، كما في الانستغرام، تسود مثلاً صور غروب الشمس وأشكال الغيوم في السماء وبرج المر في بيروت، كمواضيع للانتاج الفني، على ما يشيع بين مصوريها. واذا كانت هذه الصور مستهلكة فعلاً، ونمطية، فان هذا لا يقلل من احتمالاتها الجمالية، لأنها "بوست-كليشيه". كما في السينما اللبنانية وموضوعها الأثير، أي الاحتراب الأهلي اللبناني، واحالتها كل انتاج فني سينمائي إلى ضرورة "الاعتبار" و"التعلم" من تجربتـ"نا".


(4) مجال مستقل وديناميكي
هكذا، يبدو ملحاً التأكيد أن هذا التصنيف لا يحمل تصوراً سلبياً لما يُنتج، بل يسعى إلى تجاوزه. ذلك أن هذا الخيار الفني، كمجال مستقل نسبياً داخل المجال الفني العام، يمكنه أن يُنجز مفاهيمه ومعاييره الخاصة. وهو، بهذا المعنى، ديناميكي وفاعل وتطويري، أو تحريري من السائد. ويمكن لنصوص تنشر في صحف ورقية ومدونات، كوسائط للنشر، أن تكون مثالاً لدراسة تطور المفهوم الأدبي نفسه. واستجواب كتابها حول ماهية "الأدبي"، عندهم، قد ينتج مفهوماً متسقاً بينهم، أو متقارباً، يركن الى -وهذه افتراضات- "ذاتية الكتابة" أو "المشاعرية" و"الحكاية الفردية" و"الجمهور المُقرب" و"تأليف للاقتباس" و"التكثيف الصوري". والأخيرة ما تفرضه، على الأرجح، محدودية تقبّل الوسيط النشري الورقي، مثلاً، لمساحة أكبر، مؤسساً، بغير قصد ربما، لشكل. لكن هذا التقارب، في الغالب، لا يولد اتجاهاً أحادياً في الجمالية، أو مستوى واحداً منها.

لكنّ "البوست-كليشيه"، في ما يصنف ضمنها، تحوي كتابة روائية جديدة أيضاً، أو اقتباسية. بمعنى أن النص الروائي لا يركن الى أحداث وحوارات ووصف، بقدر ركونه الى سلسلة مترابطة من الجمل "الاقتباسية"، أو القابلة للاقتباس. وهذا ما يتسق، في غايته على الأغلب، مع سلوك قُرّائي. اذ أن القراء، في عمومهم، يعمدون إلى اقتباس ما يعجبهم في ما يقرأونه، فيحفظونه في أماكن مستقلة (دفاتر خاصة مثلاً)، أو يسطرون تحته. وهم، في الراهن، يمكنهم أن يحولوه الى ستاتوس على "فايسبوك". وهذا ما أسس إلى ظهور كُتب، تلقى رواجاً، مخصصة لستاتوسات. في مرحلة سابقة على "البوست-كليشيه"، كان يمكننا أن نسأل اذا كان منتجو هذه الروايات يتداولون، في حكيهم اليومي، أقوالاً مأثورة. أما في المرحلة التالية عليها، فإن هذه الروائية الاقتباسية صارت نوعاً معترفاً به، في رواجها بين جمهور في أغلبه يتفاعل مع كتابها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها