الخميس 2015/01/29

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

صورتان لنساء سجينات

الخميس 2015/01/29
صورتان لنساء سجينات
تتكلم غرام عن تجربة السجن هذه بشغف وأسى في الوقت عينه (ابراهيم الديراني)
increase حجم الخط decrease
عالم السجن أكبر الهواجس، في حياتنا اليومية، وأكثرها غموضاً. ويبدو مأساوياً أن كبح الخيال، في هذه المسألة، لا يتحقق إلا بتجربة فعلية، وهذا ما لا يفكر فيه الناس ايجاباً. لكنه، بالنسبة لمن خرج من السجن فإن دخول الجميع إليه ضروري لشهر أو شهرين، على ما تقول مايا، احدى السيدتين اللتين قابلتهما "المدن". يبقى أن ما يسمع عن السجن، أو يخبَّر عنه، يحمل بالضرورة تأويلاً متعدداً لحياة غير مرئية.



الرقم 9
بينما كان الناس يستعدون للاحتفال ذلك اليوم، وتحضير مآدبهم وانتقاء ثياب مناسبة، استطاعت أن ترى كل هذا من خلف الحيطان. كانت تسمع أبواق السيارات وكل ما يفعله من هم في الخارج. وحدها، وهي قابعة بين جدران أربعة، تمكنت من أن تذوق مرارة أن يجيء رأس السنة. لم يكن من المفترض أن تكون هناك. كانت تريد أن ترقص في ذلك اليوم، لا أن تبكي في السجن الانفرادي. كانت، يومها، قد مرت سنة ونصف تقريباً على وجودها في السجن. ولم تكن قد رأت أحداً تعرفه منذ سنة تقريباً، الا صديقا لها في الفرقة التي أحضروها لهم ليرقصوا ويغنوا. بكت طويلاً، ولم ترد أن يراها في هذه الحالة. أجبرتها السجانة على الخروج. تعانقه ويبكيان، وفجأة تجد نفسها في الانفرادي. السجانة نفسها وضعتها هناك. وما التهمة الآن؟ أهي التعبير عن المشاعر؟ لم تعاند. جلست في الزاوية ساندة رأسها إلى ركبتيها وأخذت تستمع إليه يعزف ألحاناً لفيروز تحبها.

تتكلم غرام (25 سنة) عن تجربة السجن هذه، بشغف وأسى في الوقت عينه. سنة ونصف من حياتها قضتها، ظلما، كما تقول. لم تعد ترقص بعدها. ربما لأن آخر ذكرى بقيت عندها، من قبل دخولها السجن، كانت للنساء اللواتي كانت تدربهن. تعود بها ذاكرتها إلى سن السادسة، حين طلب أستاذ الرياضة منهن أن يقمن بحركات حرة، فراحت تتمايل بخفة ورشاقة لفتت انتباهه. لم تقبل أمها أن تتعلم الرقص، فهذا لا يليق باسم العائلة، خصوصاً انها الأكبر بين إخوتها، فراحت غرام تتدرب سراً مع أستاذ الرياضة في أوقات الفرصة. بقيت على هذه الحال سنوات عديدة. وعندما حان الوقت، وجدتها أمها ترقص على المسرح. كان شعورهاً مزدوجاً بالفخر والتأنيب. لكن هذا التأنيب لم يكن كافياً لتوقف الرقص. السجن فعل ذلك.

تختلف غرام داخل السجن عن خارجه، كما قبله وبعده. ترفض أن تتحدث عن اليوم الذي دخلت فيه إلى السجن. قررت أن تزيله من ذاكرتها. تحدثت عنه كثيراً، حتى لم يعد لديها كلمات تصوره. كانت تلك الفتاة "المجنونة" التي تفعل ما تشاء، وكل ما يخطر في بالها. لكن هذه التجربة جعلت منها شخصاً آخر. صارت حياتها "كذبة"، كما تسميها. بات عليها أن تساير الناس وتتقيد بالشروط والحدود التي رُسمت لها. فهي الآن مجرمة بنظرهم، حتى بعد أن أُثبتت براءتها. لم تنسيهم البراءة فكرة السجن، وكأنهم هم من حكموا عليها بالمؤبد بدلاً من القاضي نفسه.

سنة ونصف أمضتها غرام في مكان مغلق. الكتابة كانت خلاصاً أخرجها مما هي فيه. وقد أصدرت كتاب "جمع تكسير" بعد خروجها، أو بالأحرى بعد إثبات البراءة. لم تكتب قصتها، بل كتبت قصصاً متنوعة عن الناس والحياة. لم تكن تنتظر البراءة. ففي السجن يقنعوك بأنك مجرم. وحتى لو كنت بريئاً تصدق التهمة وتتعايش معها. وعلى الرغم من قسوته فهي تشتاق إليه. تشتاق إلى الصدق والحقيقة. تشتاق إلى "المساحة البيضاء في حياتها، إلى المكان الصحيح الوحيد الذي وجدت فيه"، اذ ليس هناك من داع للكذب بين هذه الجدران الأربعة. "بكل الأحوال انتِ مجرمة، ما في داعي تكذبي"، تقول.

بعد إخلاء سبيلها، وقبل صدور الحكم، عملت في أوتيل في مكان لا يعرفها فيه أحد. أرادت أن تجمع المال لتشتري راحتها وكرامتها عندما تعود لقضاء محكوميتها. لم ترد أن تقضي ساعات في صنع عقد من الخرز لتبيعه وتقبض بدله 1500 ليرة لبنانية، ثمن علبة دخان واحدة. كانت مقتنعة بفكرة العودة ومهيأة لها. عرفت لماذا يعود الناس إلى السجن. المرة الأولى هي الأصعب. مرة أو أكثر في السجن لن تغير نظرة الناس، فمجرم المرة الواحدة مجرم للأبد. لم تفرح ببراءتها. كل ما أرادته أن ترى ردة فعل الناس في المحكمة. أرادت أن ترى في عيونهم كلمة "بريئة".

في السجن كان رقمها تسعة. عند خروجها لم تعد الرقم تسعة، بل عادت إلى اسمها وحياتها الطبيعية. لكن هذه المرة أقوى. وهي لم تتوقف عن زيارة "الأرقام" اللواتي لا زلن في الداخل. تدرك، وحدها، أنهن حاسبن أنفسهن، في وقت حكم الجميع عليهن بالإعدام.


ثلاث مرات
ليلة العيد قاسية على من في السجن. تتحدث مايا عن عشية الميلاد، وكيف كان صعباً أن تسمع أبواق السيارات والموسيقى من خلف الحائط الكبير، الفاصل بينها وبين العالم الآخر. لم تكن هذه مرتها الأولى في السجن. فقد سبقتها مرتان أخريان. لكن هذه المرة كانت مختلفة. اذ استيقظت سجينة، في هذه الليلة، لتجدها تربط الأغطية ببعضها لتصنع منها حبلاَ تشنق به نفسها. لم تكن في وعيها، حتى أنها عندما استيقظت في اليوم التالي لم تتذكر ما جرى.

لم تفاجئ تجربة السجن هذه مايا، فحياتها في الخارج لم تكن أقل مرارة. تزوجت في سن السابعة عشرة وأنجبت ثلاثة أولاد، لا تعرف عنهم شيئاً منذ انفصالها عن زوجها منذ سبع سنوات. ولم يحالفها الحظ في علاقتها بالرجل الذي أحبته من بعد زوجها. كانت مستعدة لفعل أي شيء لكي تبقى معه. لكن هذا لم يحصل. اذ ورطها في قضية مخدرات أدخلتها السجن، وكانت تجربتها الأولى. بعد أن عادت إليه فور خروجها، استقبلها بحفاوة غير معهودة، لتكتشف لاحقاً خططاً كان قد أعدها لتوريطها في التزوير وتجارة الأسلحة وغيرهما. لكن هذه المرة كان تعلقها بنفسها، أو ربما بالحياة، أكبر بقليل من تعلقها به، فرحلت.

المرة الأولى هي الأصعب. فهي بعد أن تركته عادت إلى المخدرات بشكل أكبر، وبعدها إلى السجن مرة ثانية. لم يكن جديداً الجو عليها. اذ يسيطر على عائلتها، ومحيطهم، هذا الطابع. هم أيضا ثلاثة إخوة، أحد إخوتها مدمن منذ 13 سنة وهو حاليا في السجن، والآخر "ما بحب غير حالو"، كما تقول. أما أمها، فلم تنس بعد ما فعلته بها عندما وضعتها في مدرسة داخلية بعد انفصالها عن أبيها، الذي لا تعرف حتى مهنته، "لتسافر وتشم الهوا"، على حد قولها. ربما تجد في خالتها، التي لم ترد أن تنشأ ابنة أختها في جو كهذا فأخذتها وربتها، الأم التي أرادت. لم ترد مايا أماً تكتفي بإرسال الأموال لها، بل أرادت أماً تشعر بها.

لم تشعر مايا بالانتماء الى هذه العائلة. يصعب عليها مخاطبتهم ومشاطرتهم همومها. لا تريد أن تعرف عاداتهم ولا أن تشاركهم حياتها. تتحدث كيف أنها عانت من آلام مبرحة في معدتها ولم تشأ أن تطلب حبة دواء تسكن فيها وجعها. "الغريب يغدرني أحسن من إنو القريب يغدرني"، هكذا تصف مايا، البالغة من العمر 28 سنة، عائلتها.

في كل مرة تدخل السجن، تخرج حاقدة على جميع من هم في الخارج. تخرج لتنتقم وتعود. الذل الذي تعاني منه في الداخل يدفعها إلى الانتقام. لم يسأل عنها أحد قط. من في الخارج لا يدركون كم هو مؤذ أن تكون بين جدران أربعة لفترة طويلة و"لا يفكر أحد بزيارتك"، تقول مايا. وهي تستحضر ذكرى إحدى "الصحافيات" التي أرادت أن تعد تقريراً عن السجون، لكنها أبت أن تدخل إلى الزنزانة، وسمعتها السجينات تقول "يلي جوا شكلن مثل يلي برا".

في عودتها الثالثة لم تتغير قصص كثيرة. لكن عودتها هذه المرة لم تكن لتعاطيها أو بيعها المخدرات، إنما بسبب شاب تعرفت عليه، تمنى لو يضعها في قفص. أحبها ربما أكثر مما تحب نفسها، وفضل أن يؤذيها هو على أن تؤذي نفسها. 11 شهراً إضافية كانت كافية لتعبئ المزيد من الحقد، لتفرغه عندما تخرج.

تتحدث عن التناقض داخل السجن. كيف أنها وجدت في الداخل أشخاصاً يحبونها ويخافون عليها أكثر من أهلها أنفسهم. تشتاق لصديقتها التي أخذوها إلى زنزانة مجاورة عندما شعروا أنهما تخففان وطأة السجن عن بعضهما. بين تلك الجدران، وجدت مايا سجينات تشارك معهن مشاكلها، دخانها، وحتى ثيابها، التي ترفض أن تشاركها فيها أمها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب