الإثنين 2014/07/21

آخر تحديث: 15:16 (بيروت)

الكولا

الإثنين 2014/07/21
الكولا
(علي علوش)
increase حجم الخط decrease

تجبر ساحة الكولا مَن يمر فيها أن لا يرى غير وظيفتها كمحطة. وهذا الإلزام، مبرَراً بالواقع وضرورته، لا يمكنه أن يخفي طابعاً عمرانياً وجمالياً قليل القيمة. وهي أقرب إلى عتبة، على ما يوصف شوقي الدويهي، في كتابه "مقاهي بيروت الشعبية"، دور ساحات المقاهي البيروتية، منذ منتصف القرن الماضي. على أن الكولا، عدا دورها الوسيط والتوزيعي بين الداخل إلى بيروت والخارج منها، تؤدي دوراً آخر. وهو أقرب إلى التمثيل أو التعبير أكثر منه وساطة.

وحدها، وفي ما هي عليه الآن، يمكن أن تمثل كل شيء في الاجتماع المحلي. كأنها مسرح كبير ويومي. والحال أن دور "العتبة" أو الوسيط، ليس مما يمكن إقتصاره على حيزها الجغرافي فحسب. ذلك أن العتبة، في كونها جزءاً من مكانين، بفصلها بينهما، هي تمثيل لهما. والكولا، في حدودها الأربعة، تمهد لكل ما يشغل الفضاء العام المديني. وهذا مفهوم، إلى حد ما. ذلك أن توسطها المكان، أو أمكنة الجماعات، يجعلها بلا صاحب واحد. ومنحها هذه المكانة أمر لا يبدو إستثنائياً أيضاً. والحال أن الأماكن العامة اللبنانية، منذ ما بعد الحرب، راحت تأخذ منحى مشابهاً، في أن تكون للكل، في إستهلاكها والاستنفاع منها، من دون أن يمتلكها أحد، على أن تؤدي، بشكل مثالي، دوريها الوظيفيين المفترضين: التوسط والتمثيل.

وهذه الوظيفة التمثيلية للأماكن العامة، هي حاصل ما استقر هدوءاً وتحولاً في علاقات النفوذ، وإنتقالها من العنفي والمادي إلى الرمزي، بدخولها السياسة في شكلها المعروف عندنا، والأقرب إلى "التواطوء الحضاري"، على ما يسمي أيضاً إيليا حريق العلاقات "السلمية" المفترضة بين الجماعات المحلية. وما يبدو للمدنيين، في إستقرارهم خارج هذا النفوذ، إحتلالاً لمشهديات الفضاء العام – عبر صور وشلل بشرية- هو، في آخره، وجوه سلطة.

غير أن الكولا، معبراً ومسرحاً، تبدو مفارقة قليلاً في ما تمثله. وهي، في مرور الناس المؤقت فيها، لا تبدو ذات سطوة على أحد، ولا يقلق المرور فيها أحد، على ما يحصل في غير منطقة لبنانية. ولا أحد يقدر أن يوجه سطوتها، أو يستنفع منها. كأنها، في بقائها هكذا "برية" أو "طبيعية" على حالها، من دون إضافات أو رموز، تمثيل وتعبير عن إحتجاج، غير معلن، لكنه ليس بالضرورة إيجابياً. ذلك أن بشاعتها لا توصف. ورائحتها، في جهة منها، لا تطاق. ورغم وجود تحسن ملحوظ عند حدودها، في الأحياء الأخرى، تبقى متجارها متأخرة هندسة وإمكانيات. وهي، في إستضافتها سلوكاً يومياً، تميل إلى فوضى غير مفهومة، ليس في تنظيم السير فحسب، بل في عبور المشاة المرتبك. ثم انها مكان مثالي لتجمع فقراء و"النوم تحت جسر الكولا". لكنها تبقى، في حالتها هذه، خياراً بديلاً. وهي، في توسطها "مجالات" جماعتية، تتيح للعابر فيها نظرة متلصصة إلى جوارها. هكذا، وعند آخرها من جهة وقوف بوسطات "الصاوي-زانتوت" المتوجهة إلى صيدا، عمود استقبال لحي قريب عُلقت عليه صور حزبية. وفي مواجهته، من الجهة العليا، ما يعرف بـ"طلعة الجامعة العربية". وهي الأخرى مشحونة بالرموز.

ويمكن إستكمالاً لهذا السياق تأويل المكان الذي تحتله الملالة العسكرية، الشهيرة، تحت جسر الكولا على أنه، في مركزيته، دليلاً على سطوة حكومية لا تجابه. وهذا ما لا يمكن تأكيده، على أي حال. على أن هذه الملالة، التي تحولت ديكوراً خاصاً بـ"المستديرة"، مقتطعة منها مساحة مقدرة في المعنى الاقتصادي لأهل الكولا، تبدو دائماً بلا هيبة يفترض أن تحوزها، رغم أسلاكها. وهذا تمثيل وتمهيد أيضاً.

increase حجم الخط decrease