الثلاثاء 2014/11/25

آخر تحديث: 14:57 (بيروت)

كدمات المرأة الشفافة

الثلاثاء 2014/11/25
كدمات المرأة الشفافة
غرافيتي من بلجيكا
increase حجم الخط decrease
 

في مناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء، دعونا نتحدث عن العنف الممنهج الذي لا تتحدث عنه القوانين والمواثيق الدولية.

مع الصرخة الأولى، تتوجه الأنظار كلّها الى الجزء السفلي من المخلوق الصغير الذي لم تمض ثوانٍ قليلة على خروجه من أسفل مخلوق آخر. قد ينتهي هذا التفحص بـ"زلغوطة" أو ردود أفعال متفاوتة السلبية. فعالمنا هذا يعطي أهمية كبرى لما يوجد بين الأرجل. على أن مستوى الأهمية هذه يتفاوت بين ثقافة وأخرى، عائلة وأخرى، ليضمحل كلياً في بعض الحالات.

تبدأ غرابة ديناميات العلاقات الجندرية من هذا المشهد. فكيف للإنسان الذي ولد من رحم الطبيعة أن يقلل من شأن المخلوق الذي يعطي الحياة؟ على أن هذا المشهد يصبح مفهوماً حين نشهد على محاولة الإنسان، والرجل خصوصاً، السيطرة على الطبيعة لكونها أقوى منه. ولأن  المرأة تمتلك قدرات لا يستطيع أبداً الإستحواذ عليها، فانه يهابها ويحاول عكس المعادلة عن طريق إخضاعها.


اللون الزهري
تبدأ حياتها وتبدأ معها بإحصاء الضغوط التي تتلقاها من كل صوب. يجلبون لها أغراضا وثيابا زهرية. وهذا اللون يلازمها خلال نشأتها، فتفهم من خلاله أنها مختلفة عن أخيها. تمارس نشاطات أخرى تفرقها عن الصبي، فيشتري لها أهلها عدة المطبخ لتلعب بها أو "الباربي" لتسرّح شعرها. يُسمح لها، بداية، أن تلعب بالطابة مع أولاد الحي، وأن تقفز وتركض ملبية احتياجات أي طفل، الى أن تأتي اللحظة التي توبخها فيها أمها على زياراتها لبيت "ابن الجيران"، مصورةً إياه كـ"بعبع" سيبتلع ابنتها. لا تفهم الفتاة لماذا عليها أن تخاف ممن كانت تلعب معه "الكلة" في اليوم السابق، لكنها تجاري اللعبة، ويكبر معها خوف غير مفهوم يضعها في مواجهة الرجل، ويشعرها بأنها ضحيته.

هذه النقلة النوعية في حياة الفتاة تتجلى بأشكالٍ عديدة، قد يكون أولها التوقف عن اللعب بالكرة أو الدراجة والإنضمام الى أمها في المطبخ، وقد يكون آخرها الحجاب. والحال أن سبل فرض الحجاب عليها متنوعة، وتتدرج من رؤيتها لأمها تلبس الحجاب، الى أساليب الإقناع بالمحاججة والتخويف، قبل اللجوء الى فرضه بالقوة في حال فشلت الأساليب السابقة. يضعون على رأسها الحجاب فتفهم، ويفهم زميلها في الصف، أنها انسان مختلف عنه، لا يجوز لمسه. هي هذا الصرح الذي لا يجوز دخوله، فيجهلها أكثر ويهابها أكثر فأكثر. أما هي فتشعر بثقل ما عندها، وبخطيئة امتلاكها لجسدها، وبالنقص، وبوجوب معاقبة نفسها من خلال حرمان شعرها ملامسة الهواء.

تقتنع أنها مذنبة لإمتلاكها شهوة وأنها المسؤولة عن شهوات الآخرين. الحري بها أن تخبئ "عارها" تحت طبقات من القماش العازل. تُحمَّل مسؤولية نظرات الآخرين إليها وكلامهم لها وتحرشهم بها، إلى أن يدفعها كل هذا إلى ملازمة نطاق أمانها، أي المنزل.

الجمال صفة نسائية، لذلك من واجبها أن تكون جميلة. تملي عليها وسائل الإعلام معايير جمال عليها التمثل بها. وهي بمعظمها معايير تخدم مصالح اقتصادية. فيقوم أصحاب الشركات ومروجوها بالمتاجرة بشعورها بالنقص وبرضاها عن نفسها وجسدها، الى أن ينتهي بها المطاف في عيادات التجميل أو عند أختصاصيي التغذية. يفضلون جسدها هزيلاً ضعيفاً، كدلالةٍ على ضعف كيانها.


عنف الأحكام
تصبح في العشرينات من العمر ويصبح زواجها ملحّاً. ان لم ترد الزواج فإنها بالتأكيد تعاني من "خطب ما". ستُصنف كـ"عانس" وهي، في مجتمعنا، مفردة مرادفة لكلمة "مجنونة". الزواج أمر محسوم، ستظل هي من دونه ناقصة، عارية في مواجهة عنف الأحكام والتصنيفات.

يتحتم عليها بعد ذلك أن تصبح أماً. وهذه أيضاً من الأمور المسلم بها. يخرج الطفل من رحمها لكن ذلك لا يعطيها حق منحه اسمها. هي من يعطي الحياة لكن هذه الحياة تنسب الى كائن آخر، هو الرجل. ولعل التعبير الأصدق عن عبثية هذه العملية جاء بلسان الكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي، "رأيت بعيني وجع الولادة فشعرت أن من الظلم أن لا ينسب الأطفال إلى الأم.. لا أدري كيف اغتصب الرجل حق نسبة المولود لنفسه!".

لكن الأمور لم تكن دائماً على هذا النحو. وهنا أيضاً نستدعي التوازي بين المرأة والطبيعة. فحين كان الإنسان بعيداً من محاولة إخضاع الطبيعة، كانت النساء هن الآلهات، وكانت عبادة الطبيعة تتلازم مع عبادتهن.


الضحية في البنية
تنجب الأطفال، وعلى عكس ما كانت تعتقد، تستمر الضغوط، لا بل تتكاثر. فهذا الإنسان مطلوب منه العطاء، دائماً العطاء. هي تعيش لهم، لزوجها، لأطفالها، وللمجتمع. تعيش فقط لإرضائهم، وتلبية حاجاتهم. يراقب المجتمع كله مدى عطائها، ويحاسبها في حال التقصير. يراقب تربيتها لأطفالها، والعطاء في هذه الحالة ليس كافياً، بل التفاني في سبيل أطفالها هو المطلوب. تجاري اللعبة أيضاً وتصبح مثلهم. تقتنع ان حياتها مجرد مكمل لحياتهم، وأنها وجدت من أجلهم فحسب. تتعلم أن تراقب عطاءها بنفسها وأن تعاقب نفسها بنفسها في حال قصرّت. تعاقب نفسها بقسوة، وهي تعلم أن لا شيء سيكون يوماً كافياً.

يُبنى المجتمع حجراً حجراً، ويتناسى الجميع، بمن فيهم هي، دورها كحجر أساس في البنية لا في الشكل. ويمضي الجميع بالظن بأنها طلاء هذا الصرح فحسب، فيصبح وجودها متعلقاً بصورة هذا المبنى. وجودها يتوقف على وجوده، لكن في المقابل صورته فقط تتأثر بها، ومهمتها تتلخص بالحفاظ على صورتها من أجل تجميل صورتهم هم.

يودي بها كل ذلك الى لعب دور الضحية. عندها فقط تصير فعلاً ضحية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها