مشكلة مؤسساتية
علم الاجتماع في العالم العربي في أزمة. هذا واضح عند حنفي أيضاً. "لكنها أساساً مشكلة مؤسساتية. ذلك أن العلوم الاجتماعية مكانها الطبيعي في الجامعات الوطنية الرسمية. وهذه ضعيفة". على أن المشكلة، بعد ذلك، "في قدرة هذه العلوم على إنتاج معرفة مرتبطة بقضايا المجتمع، وليس بالضرورة بطريقة مباشرة". وهذا التساؤل، في أصله، مرتبط في مشكلة غياب "بيئة محفزة على النقد. إذ أن المعرفة في العالم العربي تنتج في دول شمولية أو ديمقراطيات غير ليبرالية، بمعنى أنها تضع سقفاً للتفكير وتمارس رقابة غير علنية، كما في لبنان".
لا ينظر حنفي بسلبية إلى الدين. وهو يراه مهماً للاجتماع من جانب أخلاقي. "لكن ثمة عداءاً واضحاً من قبل رجال الدين للعلوم الاجتماعية. وهم لا يحترمون تقسيم العمل، بيننا وبينهم". غير أن عداء "المجموعات الفكرية"، كما يسميها، لا يقتصر على المجال الديني. "عندما تطغى الأيديولوجيا لا تترك الناس يعرفون مجتمعهم"، وفقه.
بين جيلين
يقابل هذا الضعف في المناهج والتعليم ضعف دارسي الاختصاص. وتبدو مفارقة إشارة حنفي إلى أن الجيل الأول من السوسيولوجيين العرب كان أكثر رغبة في الاتصال مع العالم. والتغير، في هذا المعنى، أصاب ما يراه الطلاب المنتسبين إلى كليات العلوم الاجتماعية في معنى إنتسابهم. مثال حنفي نفسه معبر إلى فهم ذلك. درس الهندسة ثم تركها، مكمّلاً دراساته العليا في علم الاجتماع في فرنسا. وهو ما يرجعه، في وقتها، إلى إلتزامه السياسي. "زاد عدد الطلاب كثيراً الآن. لكن قلة منهم تدخل الاختصاص لكونه علماً وإلتزاماً معاً. واختيار واحد منهما لا ينفع أيضاً"، وفقه. وفي الغالب يكون الإنتساب إليه خياراً بديلاً لخيار آخر لم يتح لهم. "وهذا مرتبط بالعرض والطلب داخل سوق العمل. نزعت المكانة عن مهنة السوسيولوجي. متى آخر مرة طلبت الدولة اللبنانية الإستعانة بخبراء في هذا المجال؟".
والحال أن التغير ليس في توجهات الطلاب المنتسبين فحسب. يشير حنفي إلى "موضة" رائجة، عند الجامعات المحلية، في اتباع النظام الأميركي. "بدأت الـAUB منذ عشرين سنة تطبيقه تقريباً، وتبعتها الجامعة اليسوعية. ويعتمد، في تقييمه للأساتذة، على نشرهم أبحاثاً في دوريات متخصصة. هذا مفهوم، وهو أحد جوانب التقييم. لكنه في العلوم الاجتماعية تحديداً لا ينفع وحده. اذ إنك تنتج، في هذا السياق، باحثين بعيدين عن مجتمعهم. لكن ليس مطلوباً أن يغيب التقييم أيضاً كما في الجامعة اللبنانية".
عقلنة الخطاب
يغيب الباحث الاجتماعي، بمعرفته وأدواته، عن الرأي العام. "المشكلة مثلاً أن أستاذ الجامعة حين يكتب في الجرائد يكتب كأنه صحافي. وهذا ما ليس مفهوماً طالما أن لكل واحد منهما دورا معينا". على أن الاستعانة بالباحثين، في وسائل الاعلام، تنحو في الغالب منحى تعميمياً. وهذا ما يوافق عليه حنفي. "الموديل السارتري للباحث انتهى. لا يمكنك أن تطلب منه أن يحدثك في كل شيء. ينقصنا في العالم العربي الخبير، ليكون في موقع عقلنة الخطاب". على أن تحول الباحثين في العلوم الاجتماعية "إلى تقنيين، يهتمون بإستطلاع أراء الناس مثلاً لصالح مؤسسات، شيء خطير. ذلك أن هذه العلوم علوم نقدية. يجب أن تناقش الناس. وتنتقد الدولة اذا كانت ظالمة لشريحة معينة. ولا يمكنك، في المقابل، أن تلتزم خطاً نقدياً فلسفياً عاماً للمجتمع. بلا طعمة. لماذا لا يركزون على المواضيع المايكروسوسيولوجية؟".
ويمكن لحنفي أن يلحظ في تجربته، منذ سنوات، في رئاسة تحرير مجلة "إضافات"، التي تصدرها "الجمعية العربية لعلم الاجتماع"، مشاكل أخرى عند الباحثين العرب. وهذا ما كتبه، في ما خص المشاكل المنهجية والكتابية، في العدد الأخير من المجلة. ذلك أن الأساتذة هم، غالباً، "خريجو الجامعات التي يدرّسون فيها. وغياب التنوع في التجربة مشكلة كبيرة، وينتج باحثاً ضعيفاً"، وفقه. "تصلنا كتابات مدرسية لا تشجع الناس على القراءة. وتقريباً 18 في المئة فحسب من المواد التي تصلنا نوافق على نشرها. وهذه مشكلة كبيرة". على أن تشاؤم العقل هذا، يُبقي عند حنفي، في غرامشيته، على "تفاؤل الإرادة. ذلك أن اختراقات كثيرة حصلت، كما في المغرب العربي". والحال أن الكتاب الذي أنجزه حنفي مؤخراً وسينشر قريباً بعنوان "البحث العربي ومجتمع المعرفة.. الوعد المستحيل"، يعرض لتجارب عالمية، مثل أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا، حققت اختراقات على صعيدي التمويل واللغة، لتكون السوسيولوجيا أقرب إلى المجتمع.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث