الجمعة 2014/10/24

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

محاكمة الأيزيديين.. في "الكسليك"

الجمعة 2014/10/24
محاكمة الأيزيديين.. في "الكسليك"
الخلاصة الأساسية التي تستخلص من الندوة الأيزيدية هي أنّ أي جماعة هاجسها الأمن حصرا لا يمكنها أن تتطور (Getty)
increase حجم الخط decrease

كبرت "جامعة الروح القدس" في الكسليك. توسعت وأنشأت مباني جديدة. كأنها كبرت "في السر" في زمن "الموات" الماروني. هذا أول ما يفكر فيه زائر الكسليك، بعد انقطاع، وهو ينزل إلى تحت الأرض طبقات عديدة ليركن سيارته، ويصعد بعدها بالمصعد الزجاجي إلى الطبقات العلوية.

ليس هذا الانطباع بلا دلالة عندما تكون غاية الزيارة حضور محاضرة عن الأيزيديين، تاريخهم ومستقبلهم، في زمن الهواجس "الأقلوية"، وانهيار فكرة "الدولة- الأمة" في المشرق العربي. فالمحاضرة، مساء أمس، وإن كان موضوعها تاريخ الأيزيديين حصراً، فهي، كما كان متوقعاً، تناولت تاريخ المسيحيين وخصوصاً الموارنة في لبنان، لا بل أكثر من ذلك، قارنت بين هذين التاريخين. و"الكسليك" التابعة للرهبانية اللبنانية المارونية، ليست، في تطورها أو تراجعها، دوراً وبنياناً، خارج "السياق التاريخي" لموارنة لبنان، بل هي في صلبه وأحد أبرز نتاجاته. مع ذلك فإنّ تطورها وتوسعها في وقت يتراجع فيه دور الموارنة وحضورهم في لبنان، ليسا بلا مفارقات. لكن، في الأساس، هل تجوز المقارنة بين تاريخ الجماعتين؟

تركزّت مداخلة الدكتور سعيد خديدا من جامعة دهوك في أربيل على واقع الأيزيديين زمن السلطنة العثمانية بدءا من العام 1808، حيث تعرضوا لحملات عسكرية عديدة، قادها ولاة الولايات العثمانية المجاورة، وخصوصاً الموصل، على أماكن سكنهم في سنجار والشيخان وغيرهما. سبب هذه الحملات، يقول خدادا، كان دينياً، باعتبار أن الإيزيديين "كفرة ومرتدين"، واقتصادياً بغية السيطرة على ثروات المناطق الأيزيدية. ويذكر حملة والي الموصل نعمان باشا الجليلي سنة 1808، وحملة خلفه محمد اينجه بيرقدار، على الشيخان. وكذلك حملة حافظ باشا على سنجار سنة 1837 التي تم فيها أسر 6000 أيزيدي، تمّ بيع النساء منهم في الموصل، بينما قتل الرجال والشيوخ. وفي سنة 1847، حيث شن والي الموصل طيار باشا حملة جديدة على سنجار وتم أخذ عدد من العائلات الأيزيدية سبايا، ليجمعوا في ما بعد في ميدان الموصل حيث طلب منهم إعلان إسلامهم، وعندما رفضوا قتلوا جميعاً.

يكمل خدادا سرد المعاناة الأيزيدية، ويذكر أن السلطان عبد الحميد الثاني تبنى سياسة جديدة اتجاه الأيزيديين تمثلت بإرسال بعثات دينية إليهم بغية دعوتهم "للعودة إلى الإسلام". لكن هذه البعثات فشلت وتعرض الأيزيديون للتنكيل مجدداً. وهناك وثيقة عثمانية في آب 1892 تبين أن الدولة العثمانية باشرت بناء المدارس الدينية والمساجد في المناطق الإسلامية، لكن طرد الأيزيديين للمعلمين المسلمين كان السبب في شن حملة ضدهم في أيلول من العام نفسه. ويذكر خدادا، كذلك، استقبال الأيزيديين للأرمن الهاربين من المذابح العثمانية بين 1894- 1915، ما تسبب بشن حملة جديدة عليهم سنة 1918.

يقول خدادا أن هذا التاريخ الاضطهادي الذي عاشه الأيزيديون جعلهم لا يثقون بمحيطهم، وزرع الحقد بينهم وبين مسلميه. حتى أنه قال في معرض حديثه أن تاريخ الأيزيديين مع الموصل كان دائماً تاريخاً أسود، وهو لذلك يضع هجوم "داعش" في آب الماضي على الأيزيديين ضمن هذا السياق، بما هو استمرار ومتابعة للتنكيل الذي تعرض له الأيزيديون عبر التاريخ.

وهذا ما يعززه الصحافي خضر دوملي، المدير الإعلامي في جامعة داهوك، في كلمته عن واقع الأيزيديين أيام الانتداب البريطاني على العراق، وما بعده، مروراً بعهد البعث والغزو الأميركي للعراق، والحكومات التي تلته، وصولا إلى سيطرة داعش على الموصل ومناطق أخرى شمالي العراق.

يركز دوملي على عدم اعتراف الدستور العراقي، تاريخيا، بحقوق الأقليات، وخصوصا غير المسيحية، ويشير إلى الحملات التي تعرض لها الأيزيديون سنتي 1925 و1931، وكذلك الأشوريون بين 1931 و1933، واليهود سنة 1941، فيما يعرف بـ"فرهود اليهود"، أي تهجيرهم من بغداد ومناطق أخرى. ثم يذكر دوملي حملات التعريب التي طالت مناطق الأكراد في كردستان، وجنوب كركوك وشرق الموصل وغربها. وكذلك الاستعانة بالجيش السوري لمهاجمة المناطق الكردية التي انطلقت منها "الثورة الكردية" بين 1961 و1963.

وتحت عنوان الحملات المنظمة ضد الأقليات 1968- 1991، يسرد دوملي حملات تهجير "الكرد الفيلية"، حيث قتل منهم الآلاف عام 1983، وحملات تعريب المناطق الأيزيدية سنة 1974 حيث دمرت 158 قرية وتم تسجيل أيزيدييها عربا سنة 1977، وكذلك منع الكاكائيين والشبك من التصريح عن كرديتهم.

بدأ دوملي حديثه عن حقبة 1991- 2003 بالقول إنّ إقليم كردستان العراق بدأ يشكل "واحة جديدة للأقليات يتمتعون فيها بحقوق ثقافية ودينية وسياسية"، مشيرا إلى محاولات النظام وقتذاك منع الأقليات من التواصل مع الإقليم، وإنشاء أحزاب رديفة لهم لمواجهة نظيرتها في كردستان. ويشير إلى أنه بعد غزو العراق عام 2003، تم "الإقرار بوجود المسيحيين والأيزيديين والصائبة دستورياً"، وهم شاركوا في مجلس الحكم، كما أنشئ ديوان أوقاف لغير المسلمين. علما أن "التسامح" هذا لم يشمل الكاكائيين والبهائيين "الذين تعرضوا للتهميش". وسرعان ما بدأ استهداف أشخاص مسيحيين وايزيديين بتهمة العمالة للمحتل، وقد قتل 731 شخصا "مباشرة" في بغداد والموصل وغيرهما في هذا السياق. وما لبثت أن بدأت الهجرات الكثيفة للأقليات الدينية، حيث يشير دوملي، مثلاً، أنه في شهر واحد هاجرت 197 عائلة مسيحية من سهل نينوى عام 2009، وكذلك حدثت هجرة ونزوح كثيفان من مناطق البصرة والعمارة جنوبي العراق. وانزوى الصابئة، وخصوصاً في الأنبار، كما اختفت البهائية من "المشهد الحياتي"، بينما تعرضت الكنائس والمناطق الأيزيدية لتفجيرات عديدة بين 2006 و2009. ويحمل دوملي "الدولة العراقية" قبل البعث وبعده مسؤولية تهميش الأيزيديين والأقليات الدينية الأخرى، ويذكر كيف وهبت أجزاء كبيرة من أراضيهم في عهد البعث، للعشائر العربية، وكيف حرموا من المشاريع الإنمائية وخصوصا الزراعية وقتها. ويشير، مثلاً، إلى أنّه وقع على 199 دعوى قضائية تقدم بها أيزيديون وأشخاص من أقليات دينية أخرى في عهد المالكي، بين 2009 و2001، ولم يبت في أي منها.

ويختم دوملي بالحديث عن هجوم "داعش" الأخير على الموصل ومحيطها، وتهجير المسيحيين من سهل نينوى، وما تعرض له الأيزيديون من تنكيل وتهجير وقتل وخطف
(3000 مخطوف) ومن سبي للنساء، وهي اعتداءات وثقتها الأمم المتحدة بوصفها "إبادة جماعية".

الخلاصة الأولى من الرواية الأيزيدية لـ"الاستهداف التاريخي" للأيزيدين ولأقليات عراقية أخرى، هي أنّ العنف ضدّ الأخيرين لم يطرأ مع "داعش"، بل هو سابق عليه، ويتغذى من تاريخ طويل من العنف ومحاولات إلغاء "القوي" لـ"الضعيف". وهذا إن دل على شيء فعلى فشل الدول التي خلفت الاستعمار في إدارة تعددية مجتمعها. وهو ما شدد عليه دوملي الذي بدا من حديثه أنّ رهان الأيزيديين الوحيد راهنا هو كردستان العراق. ويروي أنّ شابا أيزيديا قال إنه لن يعود إلى بلدته حتى لو وضعت له الحكومة العراقية دبابة أمام منزله، في دلالة إلى عدم الثقة بالحكومة العراقية.

تركيز مداخلتي خديدا ودوملي على تاريخ الأيزيديين أكثر منها على مستقبلهم، يعبّر أولا عن غياب أي تصور أيزيدي للمستقبل، وطبعاً عن غياب أي مشروع سياسي خاص. فهم ما عادوا يعولون عل الدولة العراقية لحمايتهم، وهي كما يقول دوملي، تحركها فكرة أن أقليات شمال العراق وجهتهم كردستان. ولا يعولون كذلك على أميركا ودول التحالف ضد "داعش". ويروي دوملي أنّ الايزيديين في جبل سنجار كانوا يشاهدون عناصر "داعش" يقتربون منهم، والطائرات الأميركية تحوم فوقهم ولا تقصفهم. حتى أنه يعتبر أن المسيحيين محميون من الأميركيين بخلاف الأيزيديين، وهو ما أثار امتعاضا في القاعة!

الكلام السياسي الوحيد في مداخلات المحاضرين، هو السؤال عن مستقبل الأيزيديين في ظل "اتجاه العراق إلى التقسيم". "أين سنكون؟"، يسأل دوملي، قبل أن يشير إلى تعزيز حكومة كردستان لظروف الأقليات الحقوقية والحياتية، بالرغم من خطاب الأحزاب الإسلامية الكردية المتشنج، نسبيا، اتجاه هذه الأقليات.

ولعلّ مأساة الأيزيدين الأكبر اليوم هي أنّ أقصى طموحهم أن يؤمنوا حماية لأنفسهم. لا يريدون سوى الأمن، هذا ما عبّر عنه دوملي، عندما قال إنّنا "لا نريد شيئا سوى الرجوع إلى أرضنا". وهذه نقطة أساسية في رواية الأيزيديين لتاريخهم وحاضرهم، لا يبدو أن غالبية الحضور قد توقفت عندها، خصوصا بعد جنوح النقاش إلى استجواب الأيزيديين عن سبب عدم دفاعهم عن أنفسهم، وغيابهم أو تغييبهم عن "المساحات البحثية والمعرفية". إذ عبّرت إحدى الأكاديميات أنها لم تسمع بالأيزديين إلا بعد هجوم "داعش" عليهم، وسألت صحافية "متحمسة"، لماذا لم يتسلح الأيزيديون كما فعل المسيحيون في لبنان قبلا؟. وهذا الاستجواب الذي تحركه المقارنة بين تاريخ الأيزيديين وتاريخ مسيحيي لبنان، صوبّه الأباتي بولس نعمان بالسؤال عن سبب عدم سعي الأيزيديين تاريخياً للمشاركة اقتصاديا وحياتيا مع محيطهم، كما فعل الموارنة؟ قال نعمان إن "الموارنة عملوا شركاء مع محيطهم (وفق النظام الإقطاعي زمن العثمانية)، واستطاعوا أن يطوروا أنفسهم بالتواصل شرقا وغربا. وهذا ما أسس، لاحقا، للحياة اللبنانية المشتركة، وأخرج الجماعات، وإن بتفاوت، من وحداتها الاجتماعية السكنية".

لكن المقارنة بين التاريخين، أسقطت، في الغالب، الظروف الجغرافية والاقتصادية والسياسية لكلا الجماعتين، المارونية والأيزيدية، والتي لا يمكن فهم الجماعتين هاتين من دون مناقشتها ومقابلتها. وإلا تصبح المقارنة نكأَ للجراح، ووضعا للملح عليها!

الخلاصة الأساسية، التي تستخلص من الندوة الأيزيدية في "الكسليك" أمس، هي أنّ أي جماعة هاجسها الأمن حصرا، لأسباب ذاتية أو موضوعية، لا فرق، لا يمكنها أن تتطور، ولا يمكنها أن تراكم حضارة. وهذا ما يفترض أن تعتبر منه "أقليات" كثيرة اليوم!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها