الخميس 2014/11/20

آخر تحديث: 15:27 (بيروت)

صيدا: أطفال "الصناعية" ضحايا "القضية" والتمييز

الخميس 2014/11/20
increase حجم الخط decrease
عينا الطفل تكاد لا ترى سطح المبرد الميكانيكي الذي يستخدمه لتلميع قطعة معدنية. حسين، الذي يجهل عمره، يكاد طوله لا يتخطى الطاولة التي وضع عليها المبرد وغيره من الأدوات التي يستخدمها في عمله كميكانيكي سيارات. "عمري؟ ما بعرف قديش"... فكل ما يعرفه الطفل أنه لا يذهب إلى المدرسة لأنه "سوري". وأن على المرء أن يعمل ليحيا: "بدنا نشتغل لنعيش، الكل بيعرف حالنا".

في المدينة الصناعية في صيدا، ليس حسين الطفل العامل الوحيد، فمثله أطفال كثيرون تركوا مقاعد الدراسة وأحضان أهلهم ليلتحقوا بمشقات الحياة. في الشارع نفسه الذي يعمل فيه حسن، طفل يكبره بسنوات قليلة. وفقاً للرواية التي قدمها صاحب الورشة لـ"المدن"، فإن الوالد هو من جاء بابنه "القاصر" ليعمل لحسابه. يزعم الرجل، الذي فضّل أن لا يفصح عن اسمه، أنه "لا يشغّل قاصرا إذا لم يطلب والده ذلك". من وجهة نظر "المعلم"، فهو يقدم خدمة للوالد الذي "لا يستطيع أن يضبط ابنه".. ذلك أنه ليس منتسباً الى مدرسة. "ما هو سوري" يقول الرجل.

منذ الدخول الى المدينة الصناعية، عبر هذا الشارع الصغير حيث حسين ورفيقه وغيرهما، حتى الخروج منها الى الجهة الأخرى من مدينة صيدا، يحتل الأطفال – العمال حيزاً أساسياً من المشهد. "في كل ورشة يوجد ولد على الأقل، معظمهم من الجنسية السورية والفلسطينية"، يقول أحد أصحاب ورش الميكانيك  لـ"المدن". لمصلحة صاحب الورشة نفسه، يعمل "محمد". بدأ محمد "مسيرته المهنية" منذ كان في الـ13 من عمره، أي قبل حوالي السنتين. في البداية عمل في النجارة، لينتقل بعدها الى إصلاح السيارات.

بلكنة فلسطينية واضحة وبإنفعالية يجيب الطفل عن سبب تركه للدراسة: "شو بدي بالمدرسة؟ بطيقهاش... زهق ومشاكل وبخلونيش دخن". "ضربت المدير وفليت"، يقول محمد من دون أن يرى أي حرج في فعلته. غير أن هذا المراهق- الطفل، يفشل في إرهاب من يستمع إليه بالرغم من صورة الرجل العنيف أو القوي التي يحاول أن يرسمها لذاته، فالقهر ظاهرٌ بوضوح على وجهه. يسترسل محمد في الحديث، ليتضح أن خلف هذا السلوك تقف التنظيمات السياسية. "أنا بقبض من المنظمة"، مشيراً الى إحدى المنظمات الفلسطينية الفاعلة في المخيم! محمد يريد أن يصبح كوالده الذي "يقبض أكثر من المعلم"، وهو متفرغ في المنظمة، "يقاتل" في صفوفها.

أما عبدالله، فهو صبي فلسطيني في سنّ محمد، يعمل في ورشة نجارة. هو أيضاً وقع ضحية المنظمات والأحزاب. غير أن الحزب هذه المرة لبناني، يربي عبدالله على الإيمان بضرورة الدفاع عن القضية بالسلاح، بدل توعيته الى الخسارة التي يتكبدها منذ ترك مقاعد الدراسة. يعتبر الصبي أنه تعلم ما يكفيه، فهو يتقن القراءة والكتابة، "بس بالإنكليزي مش كتير"، يقول مبتسماً. لا غرابة في أقوال عبدالله، ولا سيما أنه يشعر بأنه يفترض به "أن يثبت أنه بات رجلاً، خصوصا خلال الإجتماعات الحزبية". وللرجل معايير، فهو بالطبع عامل، قادر على تحمل أعباء الحياة، ليصبح خلال سنوات قليلة قادرا على حمل السلاح...

تعتبر الأعمال التي يمارسها هؤلاء الأطفال في المدينة الصناعية في صيدا من أسوأ أشكال عمالة الأطفال. وهم يستمرون في العمل منذ سنين في ظل غياب مطلق لرقابة وزارة العمل أو الشؤون الإجتماعية. ويؤكد أصحاب الورش أنه حتى البلدية لا تدخل الى "مدينتهم". يقول أحد المعلمين أن وزارة الشؤون الإجتماعية، كانت تعمل "عندما كان هناك دولة قبل الـ75". الحديث نفسه يؤكده صاحب ورشة أخرى، وهو شاب عشريني، يقول "منذ كنت طفلا أعمل في محلات حلويات معروفة في بيروت، لم تأت الرقابة إلي مطلقاً".

وفي ظل الغياب المطلق للرقابة، يتعرض الأطفال في الأماكن التي يعملون فيها للإستغلال الواضح. فمداخيلهم الشهرية تتراوح بين الـ120 ألف ليرة للأصغر سناً، والـ 300 ألف لمن هم في عمر الـ15 تقريباً. بينما يحصل البعض على 200 ألف شهرياً. أما عن المهمات المطلوبة من الأطفال، فتنسحب الى كل الأعمال، كالنزول تحت السيارات وتقطيع الخشب وغيرها من الأعمال الخطرة. وتطول ساعات عملهم من الثامنة صباحاً الى الرابعة بعد الظهر.

الإقتراب من مكان عمل الأطفال، يظهر الحالة اللاحقوقية واللإنسانية المركبة التي يعانونها. بدءاً من التعامل مع وجودهم في أماكن العمل على أنه أمر طبيعي لكونهم من جنسية غير لبنانية، مروراً بإستخدام أطفال دون الـ13 من العمر وآخرين بعمر الـ15، جميعهم يعملون في ورش تصنف صناعية خلال ثماني ساعات متواصلة يومياً، وصولاً الى الأجر الزهيد الذي يحصلون عليه ما يشكل استغلالاً واضحاً لهم. بالإضافة الى كون الأطفال يقعون في هذه الورش ضحية "أسوأ أشكال عمل الأطفال". وكل ذلك خلافاً لأحكام قانون العمل، والإعلان العالمي لحقوق الطفل، ولإتفاقية حظر أسوأ أشكال عمالة الأطفال، ولبنان عضو فيها.

ومن بين أسوأ أشكال عمالة الأطفال بالنسبة للإتفاقية الأخيرة "الأعمال التي يرجح أن تؤدي بفعل طبيعتها أو الظروف التي تزاول فيها الى الإضرار بصحة الطفل أو سلامته...". فمن جهة القانون اللبناني، الذي لم يعدل بالرغم من انضمام لبنان الى هذه الإتفاقية، يحظر استخدام "الأحداث" دون الـ13 من عمرهم بالمطلق. كما يحظر استخدام "الأحداث" دون الـ16 في الأعمال الخطيرة بطبيعتها. ويحدد عدد ساعات العمل اليومية القصوى بـ 6 لمن هم دون الـ18 من العمر، على أن يتخللها ساعة راحة. ويساءل كل من الأهل وصاحب العمل جزائياً عن مخالفة الاحكام المتعلقة بعمل "الأحداث". أما الإعلان العالمي لحقوق الطفل، فيحدد مبادئ الحماية الأساسية، بغض النظر عن التفاصيل. " يحظر في جميع الأحوال حمله- أي الطفل- على العمل أو تركه يعمل في أي مهنة أو صنعة تأذي صحته أو تعليمه ...".

ولتطبيق القوانين، أنشأت وزارة العمل عام 2012 اللجنة الوطنية لمكافحة عمل الأطفال. وتقول عضو المجلس الأعلى للطفولة أليس كيروز في حديث لـ"المدن" إنّ "اللجنة عملت لفترة فوضعت نظامها الداخلي، واستراتيجية عمل"، غير أن الإستراتيجية هذه لا تزال حبراً على ورق. فوفقاً لكيروز لا تزال خارج اطار التطبيق. تعتبر كيروز أن الأزمة متعددة الجوانب، فمن جهة الرقابة ضعيفة، ومن جهة أخرى لا يمكن انجاح أي خطة لمكافحة عمل الأطفال من دون مواجهة الفقر، وفرض التعليم الإلزامي ...

أمجد طفل آخر، هو بائع قهوة عند مدخل "الصناعية". بالرغم من سنه الصغير، فهو المعيل الوحيد لأسرته اللاجئة. ينتظر أمجد أن تهدأ الأمور في سوريا ويخرج والده من السجن، ليعود ويكمل تعليمه. ليت لحلم أحمد مكان للتحقق في دول الفقر والحروب التي ولد فيها.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها