السبت 2018/01/20

آخر تحديث: 05:14 (بيروت)

مريم فاقدة البصر.. تعيش حياتها بصيرة

السبت 2018/01/20
مريم فاقدة البصر.. تعيش حياتها بصيرة
لم تكن حياة مريم سهلة (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease

تسيرُ بشموخ مبصرةً طريقها، كأنّها تراه. تسيرُ مريم مكتوفة اليدين في رواق المدرسة، فتنحرف عن الطلاب الطائشين، ثم تكمل وجهتها، كأنّ النور يضيءُ لها دربها. اختفت لدقائق، ثم عادت بثقة. لم يحدث أن رأيتُها تتعثر أو تمد إحدى يديها لتتلمّس طريقها.

ناديتُها، فسمعتني وتوجهت نحوي مبتسمة وكأنها تراني. وصلت وبادرت غير مترددة، متلقّفة يدي لمصافحتي. "أنا أحبُّ الحياة كثيراً"، تقول مريم في حديث إلى "المدن". "صحيح أنني لا أبصر، إلا أن الله وهبني ما هو أهمّ: نعمة الحياة. أريد أن أعيشها بملئها وأكتشف جمالاتها وأستمتع بها".

عباراتُها أثّرت بي كثيراً. لمستُ فيها كثيراً من الحكمة لشابة لم ترَ شيئاً من ألوان الحياة. هي تبتسم رغم كل شيء. ولا تنفك تنظر إلى الحياة والمستقبل بتفاؤل وأمل وإصرار على المضيّ قدماً، لتكون قدوة لأختها الصغرى وتلاميذها، وكل من يحظى بفرصة التعرف إليها.

شخصُ مريم فاقدة البصر وشخصيّتُها التي ترمز إلى العلم والمنطق والعقل، يؤكدان معنى الثنائية الضدية بين العمى والبصر، والجهل والعلم، التحدّي والتمرّد، والصراع مع الذات من أجل الوصول إلى الأفضل ورفض صفة العمى والبحث عن البصيرة. "عندما كنت صغيرة"، تقول مريم، "كنت أطلب من أمي أن تُرِيَني عينيها. فكانت تنام على ركبتي وتضع يدي عليهما فأتلمسهما وأتخيّل شكلهما".

وغالباً ما كانت مريم ترى نفسها تُبصر في الحلم. "مرّةً وجدتُ نفسي أرى.. رأيتُ الشمس. وكانت رؤيتي لها تشبه الإحساس الذي يخالجكِ عندما تتعرّضين لأشعة الشمس، فشعرتُ بحرارتها في عينيّ. بعدها، بدأت عيناي تؤلمانني وشعرت بأنني سأكف عن الرؤية. واستيقظتُ من نومي باكية، أردّد: أريد عينيّ الآن، أعيدوا لي عينيّ.. كنتُ للتو أبصر، فلماذا عادت الظلمة؟".

لم تكن حياة مريم سهلة، بل مليئة بالنضالات التي تشهد على شخصيّتها الصلبة وحيويّتها التي لا تنضُب. ففي سن الثالثة عشرة، توفيت والدتها تاركةً في عهدتها طفلةً ضريرةً مثلها، لا يتعدّى عمرها عاماً ونصف العام. كبرت الأختان وحيدتين في منزل أبويهما في بلدة الغازيّة- صيدا. كافحت مريم من أجل تربية أختها الصغيرة والاهتمام بها وتأمين كل احتياجاتها، كي لا تشعر ندى بالنقص أو الحرمان.

"كانت مريم الأم والأب والأخت بالنسبة إليّ"، تقول ندى لـ"المدن". "يقولون إنّ طفولتي كانت صعبة، ولم أكن أكفّ عن البكاء إلا مع مريم". تبتسم وتضيف: "يربطني بأختي رباطٌ وثيقٌ جداً. هي ترعاني وتغمرني بعطفها وحنانها، فضلاً عن أنها تتحمل بمفردها نفقات المنزل وكل التكاليف التي تترتب علينا".

تتابع: "ضقتُ ذرعاً من كثرة البحث، وعلى مدى سنوات، عن وظيفة متواضعة تخولني أن أصبح عضواً منتجاً في المجتمع، فلا أكون عالةً على أختي التي لطالما تحمّلت الجانب الأكبر من المعاناة، فضلاً عن المعاناة المستمرة الناتجة عن القلق النفسي على مستقبلنا فيما بعد".

من يتعرّف إلى ندى يكتشف الفارق بينها وبين مريم. فشخصيتها لا تشبه شخصية أختها المغامرة والمِقدام. هي إنسانة رقيقة المشاعر ومرهفة الإحساس، تجمع الحب والحنان. غالباً ما تمرّ ندى بلحظات ضعف واحتياج للآخرين، تتقلّبها العواطف وتؤثّر في كيانها تقلّبات الزمان. واللافت أنها تستمدّ قوتها من مريم لمواصلة الحياة من دون عِقد أو مشكلات.

إلا أن ندى في المقابل مدبّرة منزل ماهرة، سواء أكان في الطهو أم في التنظيف. ومن يدخل بيتها، يبهر بنظافته وترتيبه، ولا يصدّق أنها هي بنفسها من يتولى إدارة شؤونه. يذهلُ من يراقبها وهي تعد القهوة، وتطهو "طبخة الملوخية"، أو تذهب إلى السمّان في الحي لشراء بعض حاجاتها والاهتمام بإصرار بضيافة زائريها. هذا فضلاً عن غسيل الأطباق، وأعمال الترتيب في الصالون وغرفة النوم، وإزالة الغبار من على الأثاث وتنظيف الحمام، والعناية بالملابس من غسيل وكَيّ، وغيرها من الوظائف التي تناديها في المنزل، التي تنجزها بمفردها وبإتقان تعجز الكلمات عن وصفه.

وعندما تفرغ من الأعمال المنزلية، تنصرف ندى لمتابعة البرامج التلفزيونية التثقيفية، أو لاستعمال الكمبيوتر وتصفح الأخبار عبر الانترنت أو ممارسة الرياضة.

من جهتها، تغادر مريم يومياً بمفردها المنزل في الغازية متوجّهة إلى بعبدا، وتحديداً إلى المدرسة اللبنانية للضرير والأصم، حيث تؤدّي رسالة التعليم. وككلّ الناس تستقلّ سيارة أجرة، وبعدها تستقل باصاً عمومياً للوصول إلى المدرسة.

تروي مريم: "مرة طلبتُ مساعدة من امرأة التقيتها في الطريق أثناء عودتي من المدرسة في وقتٍ متأخر، فسألتني: إلى أين تريدين أن آخذك؟ أجبتها: كل ما أحتاجه هو أن تمسكي بيدي فقط، فأنا قادرة على الوصول إلى منزلي، لكنني أفضل ألا أمشي بمفردي. إذ أخشى أن تصدمني سيارة في هذا الوقت. وإذ أرشدتها بنفسي إلى الطريق، أضحت تضحك غير مصدقة وتردّد: هل يعقل؟ أنا أمسك بها وهي تقودني".

وبالعودة إلى المدرسة، يشعرُ من يتابع صفّ مريم بعظمة رسالتها التعليمية والتربوية الفاعلة، التي تؤديها بكفاية وحماسة، خصوصاً أنها تُعنى ببناء الشخصية المتكاملة لطلابها، وهي خير مثال لهم على ذلك. تُعلّمهم مواجهة الحياة وصعوباتها على اختلافها، وتسعى لتدريب عقول يراد منها تحقيق طموحات عليا.

مريم تتمتّع بقدر كبير من الثقافة والمعرفة في الفنّ والآداب والتكنولوجيا والسياسة. "أنا أحب القراءة كثيراً. أحب أن أواكب التطور في عصرٍ غدت فيه المعرفة سلطاناً. كما أحب أن أعيش الحياة كما هي. لا أحب أن أكون متأخّرة عنها، أو على الهامش".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها