الجمعة 2017/06/23

آخر تحديث: 02:53 (بيروت)

الشهيد الظالم

الجمعة 2017/06/23
الشهيد الظالم
المأساة الفعلية هي إعادة تدوير الظلم وتوجيهه في الاتجاه المعاكس
increase حجم الخط decrease
أتذكرون الأشرار في قصص الأطفال؟ الساحرة ذات الأظافر الطويلة والأنف المعكوف في "بياض الثلج". الحاكم ذو الوجه الكاريكاتوري بحاجبيه المعقودين وعصاه التي تقذف ناراً في "علاء الدين". الخبيث الذي يسكن قلعة مظلمة تطرب جدرانها بأصداء القهقهة والمؤامرات. في هذه الحكايات الخيالية، يقرّ الأشرار بأنهم أشرار، يفخرون بشرّهم ويشهرونه. يا له من عالمٍ مثالي!

في عالمٍ من هذا النوع، الحدّ الفاصل بين الخير والشرّ واضح. الشرير يعرف نفسه وهو متصالح معها، وكذلك الخيّر. لا حاجة لأي صراعاتٍ داخلية، فالصراع بين الخير والشرّ خارجي فحسب. إنها صورة جميلة وآمنة ترسمها ديزني وأمثالها للأطفال الذين سيتماثل معظمهم مع بياض الثلج، فيختارون الخير وينبذون الشرّ. لكن، من أين يأتي الأشرار؟ وماذا لو كانت بياض الثلج هي التي تتشح بالسواد؟ ماذا لو كان الخبيث لا يقهقه بل يبكي؟ إنها أسئلة نادراً ما يطرحها الأطفال، ناهيك بالكبار.

الفرق بين الخير والشرّ، في هذه القصص والأفلام، هو الموقف الذي يتخذه الكاتب تجاه شخصياته. أما في الواقع، فلا يختلف الأمر بتاتاً. كلّ منا يؤلف قصته الشخصية، يتخذ لنفسه دور البطل الخيّر، ويسقط على الآخرين دور الظلّام. بذلك، يحاول الفرد حماية نفسه من صراعٍ داخلي يحتمل امتزاج الأبيض بالأسود، ويمضي في حياته مقتنعاً عن حقّ بمظلوميته وتفوقه في سلّم الخير. أما النتيجة، فهي حلقة مفرغة يمارس فيها الجميع ظلماً مبنياً على أساسٍ متين: الآخرون هم الجحيم. لذا، لست مسؤولاً عن الأذى الذي ألحقه بهم. وهذا ما يتجلّى في الظلم الذي يمارسه "الفقراء" بحقّ بعضهم البعض، كذلك سوء المعاملة الذي تنزله امرأة بأخرى، رغم اختبارهما، شخصياً، وقع هذا الظلم ومشقّته. نعم، في فكرة اتحاد البروليتاريا، أو أي نوع من الفئات المهمشة، طوباية رومانسية. وذلك ليس بسبب ما يحمله المظلومون من صفات الظالم فحسب، بل لتنكّرهم لهذه الصفات.

تؤكّد الدراسات السايكولوجية هذا الإنكار الذي يتعاطى به الفرد مع الظلم الصادر عنه، في مقابل وعيه التام للظلم الواقع عليه. وقد وجدت إحدى هذه الدراسات أن "الناس يظنون أنهم ألطف مما هم عليه فعلاً". واللافت هو اكتشاف الباحثين أن "الأثرياء هم أكثر ميلاً إلى اعتبار أنفسهم أخياراً ولطفاء". وبصرف النظر عن الامتيازات التي يملكها الأغنياء وتأثيرها على تشكيل إدراكهم بشأن الخير والشرّ (هذه قصة طويلة)، إلا أن النتيجة تعبّر عن إفتراضين آخرين: الأوّل هو أن الميسورين لا يشعرون بالمظلومية. وعلى ذلك فهم لا يملكون المبرّر لسوء معاملة الآخرين. والآخر هو وعي الطبقات الأدنى بالأذى الذي تتعرض له. لكن عوضاً عن محاربته، ينتهي الأمر بإستيعابه داخل كينونتها. أما المأساة الفعلية، فهي إعادة تدوير هذا الظلم وتوجيهه في الاتجاه المعاكس. الحقد الطبقي هو طوباوية رومانسية أخرى، والحقد الأكثر إنتشاراً هو ذلك الذي يكنّه أفراد الطبقة الواحدة لبعضهم البعض.

هذه الفئة من البشر، أي معظمنا، يمكن وصفها بالشهيد الظالم. فهم ينطلقون في ظلمهم من مبدأ محاربته، من ذريعة أنهم شهداؤه. يبدو ذلك جلياً اليوم في ما يفصح عنه ناشطون لبنانيون يقدّمون أنفسهم كـ"محاربين في سبيل العدالة الاجتماعية" من حقدٍ وخصومة تجاه بعضهم. إن تحدثت إلى كلٍ واحد منهم على حدى، لقسم لك أن نواياه حسنة وأنه الشهيد المصلوب. قد يكون مدركاً أنه يكذب، لكن في معظم الأحوال سيكون مؤمناً أشدّ الإيمان بمظلوميته، وخبث الآخر. يفضي بنا هذا الصراع، وهو داخلي في الدرجة الأولى، إلى النتيجة التي فسّرها نيتشه، الناقد الأوّل لمفهوم "الخير والشرّ"، بالقول: "في ظلّ المجتمع والقوانين الاجتماعية، لا بدّ لأي ميلٍ شرير أن يمارس ضبط النفس، أن يتنكر بأقنعة كثيرة، وأن يلقي نفسه على مضجع الفضيلة. إنه إستشهاد الرجل الشرير".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها