الأحد 2017/06/18

آخر تحديث: 00:07 (بيروت)

للجاسوسية متحفها... في واشنطن

الأحد 2017/06/18
للجاسوسية متحفها... في واشنطن
التجسس هو ثاني أقدم "مهنة" في التاريخ (Getty)
increase حجم الخط decrease

شكلت الحرب الباردة "العصر الذهبي" للتجسس. واشتهرت حكايات كثيرة عن حرب الظل بين وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وجهاز التجسس السوفياتي (كي جي بي). وسمعنا عن عمليات تبادل جواسيس بين الجانبين على جسر ناءٍ بين ألمانيا الاتحادية، الموالية لواشنطن، وألمانيا الديمقراطية، الموالية لموسكو، قبل تحطيم جدار برلين في العام 1989. لا غرابة إذن إن بادرت الولايات المتحدة إلى تأسيس أول متحف في العالم منذور للتجسس. فهي خبرت هذا الميدان أكثر من غيرها، ودسّت، ولاتزال، عملاءها في أنحاء العالم.

يقع International Spy Museum في شارع "أف"، في شمال غرب واشنطن. ويشغل عمارة شيدت بين العامين 1875 و1892 لأغراض سكنية في البداية، لكنها تحولت إلى عقارات تجارية ومكاتب، إلى أن اقتناها... الحزب الشيوعي الأميركي في سنوات 1940، واتخذها مقراً. تشدد إدارة متحف التجسس على طابعه "التقني" البحت وتنوع معروضاته والندوات والمحاضرات والتظاهرات الأخرى التي ينظمها، والتي غالباً ما يشارك فيها جواسيس "متقاعدون".

ويعرض المتحف، الذي دُشن في العام 2002، أكبر مجموعة من "الإكسسوارات" والأدوات والآلات واللعب المزيفة التي يستخدمها الجواسيس، كتلك التي تغصّ بها أفلام جيمس بوند، "العميل السري 007"، ومنها سيارته "أستون مارتن" العجيبة، "البرماجوية" التي نراها في سلسلة الأفلام الشهيرة تسير وتطير وتسبح. ومن المعروضات الأخرى، هناك ما سمي "المظلة- العقرب"، لكونها مزودة بإبرة لاسعة تنفث السم. استخدمت تلك "الشمسية" في العام 1978 لـ"لدغ" عملاء بلغاريين في باريس ولندن. كما يحلو للزائرين تأمل أنواع آلات التصوير والكاميرات "المجهرية"، منها كاميرا يمكن إخفاؤها خلف زر سترة أو معطف. أما "القفاز- المسدس"، الذي لا يقلّ غدراً عن المظلة المسمومة، فقد استنبطته البحرية الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية. وهو يتيح لحامله استخدام كلتي يديه، مع إيهام الخصم بأنه يرتدي قفازاً.

طبعاً، المكان "متحفٌ" بمعنى الكلمة، أي أنه لا يعرض سوى "تحف" أضحت معروفة وبالية. فوسائل التجسس الحديثة الرهيبة التي مازالت قيد الخدمة محاطةً ببالغ التكتم. بالتالي، يستحيل الحصول عليها أو حتى معرفة ما قد تكون. ومن الأدوات "البالية" المعروضة، ثمة أجهزة للتشفير والترميز، أو حلّ الشفرات والرموز. يتألق من بينها جهاز "أنيغما"، أي "اللغز"، باللاتينية، الذي اخترعه الألمان في العام 1923 فظل سنوات عديدة من دون منازع، بحيث استخدم حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وهناك مجموعة أجهزة الترميز "أم 209 و210"، التي استخدمها الأميركيون أثناء الحرب العالمية الثانية.

كما يحلو لزائري متحف الجاسوسية الدولي اكتشاف أشياء غريبة أخرى، استوقفتنا من بينها جزم طياري سلاح الجو البريطاني في الحرب العالمية الثانية. فهذه مزودة بقلم صغير، يُفتح فيتحول إلى سكين الغرض منها قصّ جلد أعلى الجزمة بسهولة، باتباع حَزّ خاص، والتخلص منه. وبذلك لا يظل سوى أسفل الجزمة، المصمم بحيث يبدو وكأنه حذاء "مدني" اعتيادي لا يثير الفضول، ولا يُحزر من شكله أن أصله جزمة عسكرية تغطي أكثر من نصف الساق، "تنكرت" بجلد مدني وديع.

طبعاً، حذت أجهزة تجسس الاتحاد السوفياتي السابق حذو نظيراتها الغربية، فاستنبطت أدوات خداعة كثيرة، منها حذاء يحمل جهاز إرسال مصغراً في طيات كعبه. وهناك أيضاً مسدس بطلقة واحدة صمم على شكل قلم أحمر شفاه، أطلق عليه اسم "قبلة الموت"، من باب.. التحبب. وهو بطبيعة الحال حكر على الجاسوسات، إلا اللهم إذا كان العميل رجلاً متنكراً بزي امرأة، وهي حالة تحصل في أحسن "عائلات" التجسس. وفي الحديث عن الجاسوسات، دعيت إحداهن إلى إلقاء محاضرة عن "عملها" السابق في السي آي إيه، فاعترفت أنها اضطرت إلى "تقبّل حالات من شأنها أن تجعل أي امرأة محترمة تتراجع"، مضيفة: "إلا أن النصر لا يُنتزع بأساليب محترمة".

لكن التجسس، وهو ثاني أقدم "مهنة" في التاريخ، أقدم بكثير من الحرب الباردة. إذ فقه زعماء العهود الغابرة أهمية مبدأ "اعرف عدوك لكي تتقي شره"، فعمدوا إلى بث "عيونهم" بين سكان الحاضرات المعادية وجيوشها للاطلاع على تعدادها وتحركاتها، وأيضاً السعي إلى الاستفادة من خبراتها واختراعاتها واقتباس صناعاتها وتقنياتها. يروي فيلم "حرب النار" كيف أرسل قوم من الإنسان القديم، قبل 80 ألف عام، "بعثة تجسس" للتعرف إلى "تقنية" قدح النار لدى أقوام أخرى. وقبل نحو عقدين، أسفرت تنقيبات في قطنا، في سوريا، عن العثور على نصوص تشير إلى استخدام ملوكها جواسيساً كانوا يبعثون تقارير عن الأعداء الحيثيين. صحيح أن ذلك لم يحُلْ دون سقوط المدينة على أيدي الغزاة الحيثيين، قبل أكثر من 33 قرناً، لكنه دليل إضافي على لجوء الأقدمين إلى التجسس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها