الثلاثاء 2017/03/28

آخر تحديث: 00:47 (بيروت)

هل الصواب السياسي صائب؟

الثلاثاء 2017/03/28
هل الصواب السياسي صائب؟
الصواب السياسي لم ينجح في استئصال أي من الأمراض المجتمعية
increase حجم الخط decrease

تحدّث ماو تسي تونغ، في خطابٍ له في العام 1957، عن "التعاطي الصائب مع التناقضات الموجودة بين الناس". كان هذا الاستخدام لمصطلح "صائب" من أولى البذور التي أنبتت ما يعرف اليوم بمفهوم "الصواب السياسي". ومنذ نشأة الأيدولوجيا الشيوعية، التي تعتبر مصدر ولادة هذا المفهوم، وحتى يومنا هذا، شاع مصطلح الصواب السياسي بشكلٍ هائل، متحولاً إلى سلاح يدين كلّ من تفوّه برأي عنصري، أو موقفٍ متعصّب مبني على التمييز ضدّ فئة مجتمعية.

إنتشار مفهوم "الصواب السياسي" بهذه الوتيرة المتسارعة، وتنوّع طرق استخدامه وتوظيفه، دفع بالمفكّرين السياسيين واللغوين إلى دراسته بشكلٍ معمّق ونقدي. أمّا على الصعيد الشعبي، فقد تعاظم النقاش المفتوح بشأنه، وهو نقاش دعا إلى إعادة تعريفه، وإعادة النظر في صوابيته. من المؤكّد أن العالم سيكون مكاناً أفضل للعيش إذا إستئصل منه التعصّب والتمييز والتهميش. لكن هل الخطاب الصائب سياسياً وأخلاقياً هو الحلّ لمشاكل العالم، أم أنه أضحى هو الآخر مشكلة إضافية؟

فكرة "الصواب السياسي" تشير إلى وجود نظام أخلاقي أعلى يتكوّن من قوانينٍ وأعرافٍ وقيمٍ تحدّد ملامح سلوك الإنسان الصالح وخطابه. ورغم النية الحسنة لواضعي هذه القوانين الاجتماعية، إلا أنه لا مفرّ من الإشارة إلى نخبوية هذه الفئة والتراتبية التي يحملها هذا المفهوم في طياته. فالنخبة الفكرية هي التي تحدّد أطر الصواب والخطأ السياسي. وهي قد أنشأت، تحت مسمّى "إنساني" مشروع ربما، ثنائية الصواب والخطأ التي لا تختلف عن ثنائية الأرثوذوكسية والهرطقة الدينية. والمثير للسخرية هو أن هذه الأرثوذكسية، والتي يلقّبها البعض بالتوتاليتارية الإنسانية، تولد بمعظمها في حرم الجامعات.

عليه، قدّمت هذه النخبة لليمين السياسي حجّته المضادة لنقد مفهوم الصواب السياسي ورفضه، بوصفه سياسة عمودية، تُسقط من أعلى الهرم الاجتماعي والطبقي إلى أسفله. وقد وظّف قادة العالم اليمينيون هذه التراتبية لمصلحتهم، كما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي كرّر في عددٍ من خطاباته معارضته مفهوم الصواب السياسي، مقدّماً إياه على أنه "ترف" أو "إمتياز" ليس بإستطاعة الولايات المتحدة تحمّل كلفته. الموقف نفسه أعربت عنه ممثلة اليمين الفرنسي، مارين لوبان، حين تحدّثت عن "المحافظين الذين يعطلهم الخوف من مواجهة الصواب السياسي".

بإختصار، نجح اليمين في تحويل الصواب السياسي إلى "بعبع" يتساوى، في ديكتاتوريته، مع الرقابة على الفكر والتعبير. لكن اليمين ليس وحده الملام على هذا الواقع، فالمشكلة متأصلة في المفهوم نفسه. فبرأي الكوميدي الساخر جورج كارلن، الصواب السياسي هو "أحدث أنواع التعصّب في أميركا، وهو أخبثها لأنه يتنكّر بهيئة التسامح والتقبل".

أما المفكرون اليساريون المعاصرون فقد ساروا في اتجاهٍ معاكس لخلفائهم الذين إبتدعوا مفهوم الصواب السياسي. ومن أبرز أيقونات التيار الماركسي في العالم اليوم، الفيلسوف السلوفيني سلافوج جيجيك الذي يوصّف الصواب السياسي بأنه "أخطر أشكال التوتاليتارية". وينطلق جيجيك في تعريفه هذا من اعتقاده أن الصواب السياسي لا يفكّك هيكلية السلطة الموجودة في المجتمع بل "يخفيها ويجعلها غير قابلة للاختراق". ويخدم هذا المفهوم، في رأيه، المعادلة التوتاليتارية التي تفترض أن واضعي القوانين المجتمعية الصائبة سياسياً هم أكثر وعياً من غيرهم (أي الفئات الشعبية) بشأن ما يحتاج إليه المجتمع، وإن بدا أنهم يفرضون هذه القواعد فرضاً، إلا أنهم في النهاية يفعلون ذلك لمصلحة الجميع.

يبدو جلياً، في هذه النقطة، أن الصواب السياسي لم ينجح في استئصال أي من الأمراض المجتمعية. بل أدّى، في أفضل الأحوال، إلى تجنّب الخوض فيها خوفاً من الإدانة. ويجدر التوضيح هنا أننا لسنا في صدد التعرّض للقيم التي يحملها مفهوم الصواب السياسي من "احترام فئات المجتمع ورفض تهميش أو إهانة أي منها"، إلا أن المشكلة الحقيقة هي في المقاربة، تلك التي لا تختلف بشيء عن السلوك الواعظ لرجال الدين أو شرطة الأخلاق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها