الأحد 2017/01/08

آخر تحديث: 12:42 (بيروت)

أنتيكا في البسطة: سحر بيروت المفقودة

الأحد 2017/01/08
أنتيكا في البسطة: سحر بيروت المفقودة
عدد متاجر الأنتيكا في مبنى "سوق الروشة" أكثر من 30 (خليل حسين)
increase حجم الخط decrease
شكلت البسطة قديماً (مع الأشرفية) النواة السكانيّة الأولى للعاصمة بيروت، قبل أن تتوسع وتكبر مع تزايد عدد السكاتن، وتصل إلى الشكل الذي نعرفها فيه اليوم. هناك تفسيران لكلمة البسطة: البعض يرجح أنها تعني المسطبة، أو "كرسي السلطان" التي يجلس عليها من أجل مراقبة أحوال العوام. والبعض الآخر يرجح إكتساب إسمها من بسطات الباعة، الذين اعتادوا أن يفرشوا في المنطقة بضائعهم على بسطات، ليعرضوها أمام أعين المارّة.

والبسطة مقسومة جغرافياً إلى قسمين: الفوقا والتحتا. فقدت البسطة الفوقا نسبة كبيرة من جماليات الأثري والموروث فيها، بسبب الإكتظاظ البشري وسوء التنظيم المدني الذي لا يولي أي اهتمامٍ بالعمارة القديمة، بعكس البسطة التحتا التي حافظت إلى حدٍ ما على القديم أو لنقل أنها على الأقل لم تهدمه كاملاً بعد.

في البسطة التحتا سوقٌ شهيرة هي "سوق العِتِق"، كما يقال في الدارج. نحو مئة محل بين حانوت متواضع ومخزن فخم يعطي لنفسه اسم "متحف لبيع الأنتيكات". تجد في السوق العادي والمألوف، كقطع الأثاث، الكنبات، الطاولات، اللوحات والتحف المتنوعة من الكريستال العادي والبوهيمي، الأوبالين، السيفر، برسوليين الليموج والبيسكوي. كما تجد الغريب العجيب الذي لا يخطر في بال، كمجموعات المكاحل الفضية وقوارير العطور الزجاجية والأباريق، من السماور الروسي إلى النحاسي الأصفر المعروف في بلادنا والأبواب وإطارات الشبابيك وعربات الأطفال والألعاب وشنط السفر.



للشارع عشاقه من لبنانيين وأجانب، يرتادونه ليشتروا ويبيعوا، أو ليتفرجوا فحسب. تنتشر المحال في الأزقة الضيقة، وفي مبنى "سوق الروشة" الذي يصل عدد محاله إلى نحو 30 متجراً.

هنا، على مدخل المبنى العملاق، المظلم، المُغبر إلى حدّ القذارة، والموغل في القِدم، أنت فريسة لعشرات العيون. إن كنت بائعاً أو شارياً، أنت في الحالين زبون. إعلم أنه في الحالة الأولى سيتم التبخيس بما تحمل لخفض سعره. وفي الحالة الثانية سيتم المبالغة بأهمية ما عندهم لرفع سعره. أنت أمام باعة متمرسين، أصغرهم بدأ عمله منذ عقد، وفيهم من يعمل في هذا المجال منذ نصف قرن. وهم يتوارثون مهنة بلغت ببعضهم حد الإدمان على الجمع والتبديل والمقايضة للحصول على أفضل صفقة مُمكنة.

يقف سامر إسماعيل عند باب مخزنه كمن يحرس مغارة للكنوز. يتناوب مع أبيه على الدوام منذ 25 عاماً. ينفي سامر مقولة أن السوق أساساً كانت في منطقة الروشة، وحافظ على هذا الإسم مع انتقاله إلى محلّة البسطة. بل إن صاحب العقار الأصلي شاء أن يطلق عليه هذا الاسم عندما بناه. يجلب سامر ووالده البضاعة مباشرة من أصحاب البيوت، وهم إما سكان بناية قديمة تهدمت، أو ورثة عفش قديم، أو ناس يريدون الهجرة وشاءوا أن يتخلصوا مما يملكون. لسامر أيضاً شركاء في مصر وفرنسا يشحنون إليه القطع المميزة التي يحصلون عليها هناك. كل البضاعة في المتجر مستعملة ومهترئة، تفتقر إلى البريق. لكنها من دون شك تخفي سحراً يدركه كثيرون.

بعد اختيار الشاري أغراض الأنتيكا التي يريدها، بإمكان سامر أن يرسلها ليرممها في المنشرة القائمة على الطابق الثاني من المبنى نفسه، لتعود جميلة وأنيقة. يضيف سامر أن هذه المهنة عادت للإنتعاش منذ عشر سنوات تقريباً، مع عودة الجيل الجديد لتذوق هذا الفن ورواج اعتماده كنمط تصميم في المقاهي والمطاعم التي تُفتتح حديثاً. يتحدث عن إنعكاس عمله على حياته الشخصية، ويقول إنه غالباً ما يغير في عفش بيته ويبدله، وأنه نقل حب القديم إلى زوجته وأولاده، فابتعدوا عن العصري كما تفعل غالبية الناس.


في الجهة المقابلة، يعمل علي كوثراني في متجر ضمن السوق الكبير. كل البضاعة مُجدّدة هنا ولا أثر للغبار عليها. تجد سجاداً وتحفاً وحُليّاً نسائية وخزائن أرابيسك وثريات. ينتمي علي إلى عائلة معروفة في تجارة الأنتيكا وتملك معارض عدة في الجوار. من هذا المنطلق، يتحدث عن عمله بشعور بالانتماء والشغف. يضع أمامي مكسرات نيئة وزبيباً وكوباً من الزنجبيل الساخن، ويُشعل خلفي عود بخور ليبدد رائحة التنر الآتية من المشغل المجاور الذي يستورد الأثاث المصري الجديد، لكن المُصمم وفق الخطوط العامة القديمة. لعلي نظرة اجتماعية لهذه التجارة. يقول إن على البائع أن يتمتع باللباقة والثقافة العامة الواسعة، فزبائنه من الأطباء، المهندسين، رجال الأعمال، النواب وأشخاص من "المجتمع المخملي". بهذه العبارة الأخيرة يصنف على زبائنه. وبالتالي يكلمهم بأسلوبهم ويروي لهم نبذة عن تاريخ السلعة كي يقنعهم ويبني معهم علاقة ثقة.

يكمل علي تصنيفاته: اللبناني ذوّاق، الكويتي سخي كما السعودي، على عكس الفرنسي البخيل. الروسي يشتري بكثرة ويعرف ما يريد. أما الألماني والأميركي فهما بعيدان من ثقافة العراقة ولا يقدران قيمتها المعنويّة ولا المادية ويفضلان العملي والمودرن. لا يربط علي أحوال السوق بأزمات البلد، ويعتبرها خارجة عنه، فقد ترتفع نسبة المبيعات بعد انفجار، وقد تنخفض خلال فترات السلم. وهو ما يعتبره أمراً غريباً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها