الخميس 2017/01/26

آخر تحديث: 00:38 (بيروت)

المهنة: صياد أغلى ماء في العالم

الخميس 2017/01/26
المهنة: صياد أغلى ماء في العالم
"تسرح" جبال جليدية آتية من مجمدات تقع إلى غرب جزيرة غرينلاند (Getty)
increase حجم الخط decrease

تتفرد مقاطعة نيوفاوندلاند الكندية بمهنة صيد بحري غريبة. إذ يركب ممارسوها البحر لا بحثاً عن ثروته السمكية، ولا اللؤلؤ أو المحار أو الصدف أو كنوز غارقة منذ أيام الرومان، إنما لـ"صيد" جبال جليد سارحة في المحيط الأطلسي، قرابة سواحل شمال شرق كندا.

فجراء الاحتباس الحراري المتزايد، "تسرح" جبال جليدية آتية من مجمدات تقع إلى غرب جزيرة غرينلاند، فتصل قبالة مناطق مأهولة نسبياً، من ضمنها إقليما "نيوفاوندلاند" و"لابرادور"، في شمال شرق كندا. وفي موسمي الربيع والصيف، تنحدر تلك الكتل الهائلة بمعدل سرعة 700 متر في الساعة. لكنّ بعضها يتجاوز 4 كيلومترات في الساعة. كما "يسافر" بعضها إلى مسافات تصل إلى 4 آلاف كيلومتر عن "موطنه" الأصلي، إلى أن يذوب تماماً في المياه الدافئة.

وبما أن مصائب قوم، نعني هنا البشر جميعاً، المتضررين من الاحتباس الحراري، عند قوم فوائد، يمخر أولئك البحارة الكنديون عباب الماء لصيد... الماء. فتلك الكتل الجليدية أشبه بـ"ينابيع" متجمدة لمياه لا تضاهيها مياهٌ نقاوةَ وصفاءً وعذوبة. وتشكل تلك الخصائص الفريدة الحافز الأساسي للصيادين، الذين يبيعون "غنائمهم" المائية لشركة كندية تقوم بتعبئتها في قنان بلاستيكية أو زجاجية، وتسويقها تحت العلامة التجارية "آيسبيرغ" (جبل الجليد)، مع التشديد في حملاتها الدعائية على أنه "أصفى ماء في العالم".

يبحر أولئك الصيادون باكراً في الصباح للاستفادة من وضح النهار للتحرك في تلك المناطق، والعودة قبل حلول الظلام، تلافياً للارتطام بكتلة جليدية ليلاً. والحال تلك، يبتلع اليمُّ القارب الضئيل. وطبعاً، لا يقدرون، بقواربهم المتواضعة، على سحب جبل بأكمله، أو رُبعه أو حتى عُشره وأقل. إنما يكتفون بالعودة بقطـَع من "هشيم" الجليد، يراوح وزن كل منها بين طن واحد و30 طناً. ولتهشيم الجبل "الطريدة"، يقتربون منه، فيطلقون النار ببنادق، مثل صيادي البرية حين يرمون طرائدهم من ذوات الأربع أو الجناحين. ولا تهدف الإطلاقات إلى "قتل" الهدف أو إصابته. إنما يكفي الصدى الصوتي الناجم عن بضعة عيارات لتفتيت كتلة الثلج، التي تصدر أثناء تفككها دوياً يصمُّ الآذان. وطبعاً، عليهم توخي بالغ الحذر لتفادي اصطدام القارب بجبل أو كتلة جليد، وملاقاة مصير مأساوي مماثل لما لاقاه أكثر من 1500 شخص على ظهر "تايتانك"، سفينة نقل الركاب الشهيرة التي غرقت في 14 نيسان 1912 في شمال غرب الأطلسي، في موقع غير بعيد عن مكان "اصطياد" هذه المياه، قبالة سواحل نيوفاوندلاند. وسبب غرقها كان بالذات اصطدامها بجبل جليد.

وبعد العودة إلى الديار، يقوم صيادو الماء بتزويد شركات متخصصة، أشهرها آيسبيرغ ووتر إنكورپوريشن، التي تتجاوز قدرتها الإنتاجية السنوية المليار ونصف المليار ليتر من مياه لا تتطلب أي معالجة أو تكرير، إنما تخضع للترشيح مرتين، من باب الاحتياط، للتخلص من أي شوائب قد تعلق أثناء "قفص" كتل الجليد ونقلها إلى مصانع الشركة، التي تسوق 10% فقط من الماء معبأَ وجاهزاً للشرب (بأسعار عالية). أما الباقي، فتستخدمه لتقطير الكحول، تحديداً ماركات معينة من مشروب الفودكا، تستهلك بشكل خاص في كندا والولايات المتحدة الأميركية.

لكن، ما الذي يجعل ماء الجبال الجليدية الأفضل على وجه اليابسة (والمبللة أيضاً)؟ يقال عن السجاد الثمين إن قيمته ترتفع كلما قدُم. تلك هي الحال فعلاً مع مياه آيسبيرغ. فتلك الجبال تكونت قبل 10 آلاف إلى 15 ألف عام، في وقت لم يكن فيه العالم يعرف شيئاً اسمه التلوث. هكذا، "انحبست" جزيئات الماء النقي مئة في المئة داخل تلك الكتل، ما شكل حماية طبيعية لها من الشوائب. أما اللون الأبيض الناصع الذي يميز تلك المجلدات، فمردُّه انتشار عدد هائل من فقاعات الهواء انحبست، هي أيضاً، بين جزيئات الماء المتجمد أثناء تكون الكتل. وجراء الفارق بين الكثافتين النوعيتين للجليد والماء، تنغمر جبال الجليد تحت سطح البحر بنسبة سبعة أثمان حجمها تقريباً. ومن هنا نبع مصطلح "الجزء الظاهر من آيسبيرغ"، في الحديث عن أمر شائك ومعقد، لكن لا يُعرف منه إلا الجزء الطافي فوق السطح فحسب، في حين يستتر الباقي، أو على الأغلب يُجرى التستر عليه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها