***
عندما كنّا لا نزال صغاراً كنّا نُسأل: "أيّهما تحبّ أكثر، زغرتا أو إهدن؟". كان من الممكن حينها أن تأتي الإجابة مغايرة. كان من الممكن أن نقول إننا نحب زغرتا أكثر من إهدن. كانت تختلف الإجابة باختلاف المواسم. مواسم لا فصول لها، لا طقوس لها ولا انبهاراً مرهقاً يرافقها على الدوام.
نهر المرداشيّة والمكان المحيط به هو موسم من المواسم التي لا توحي بالدهشة، وهو لا يستفزّ زائره. يعيد إلى الذاكرة– التي عرفته والتي لم تعرفه– معنى أن يكون العيش بسيطاً فقط. رقّة العيش التي تكفي. يعيد إلى الذاكرة "ريّا النهر"، أولى روايات جبّور الدويهي المستوحاة من المكان نفسه. ريّا التي حلمت أن ترحل عن المرداشية لكنها بقيت فيها، والتي يبدو أن بقاءها هذا لا يزعجها كثيراً، بل تستكين إليه.
يتساءل أهالي إهدن كيف يمضي أهالي زغرتا صيفهم في المدينة الساحلية؟ أجاب أحدهم مرّة على السؤال الذي نادراً ما ينتظر سائلوه جواباً. تحدّث عن فترة بعد الظهر، عن الكسل الجميل، عن مقاهي التلّ التي تتصفّ بهدوء قلّما يشبهها خلال الأشهر التسعة المتبقيّة، عن المرداشية التي يكاد يضاهي ليلها ليل إهدن الطيب، عن كوب من الكوكتيل أو القهوة على السطَيحة أمام مدخل البيت، عن بعض المساحات الخضراء.
***
"ثمّ أتعرفين ماذا يعني أن يرحل كلّ أهل المدينة ويتركونها لكِ أنتِ وحدك لأشهر؟ ماذا يعني أن يكون لك مدينتك التي لا تتشاركينها مع أي كان؟". أشعر أحياناً بالأسى تجاه زغرتا، بالحزن لأننا ربما نقسو عليها كثيراً. لا نزيّن مدخلها بعبارة كتلك التي وضعت على مدخل إهدن حتى يقرأها كل خارج منها، وهي تقول: "إهدن، أنا راجع". لا نكتب لها الأشعار، ولا نحدّث الغرباء عنها، ولا نتحمّل حرّها صيفاً، كما نتحمّل ثلج إهدن شتاء.
تُذكّر زغرتا مؤخراً بأغنية "جولين" لدوللي بارتون، حيث توجّه المغنية نداءً مثيراً للشفقة لامرأة أخرى لكي تبعد عن حبيبها وتتركه في حاله. جولين ذات "الجمال الذي لا يقارن، ضحكتها كنفس الربيع وصوتها ناعم كمطر صيفيّ"، تعترف أنّه لا قدرة لها على منافسة المرأة الأخرى، وتعترف بقدرة هذه الأخيرة على أن تخطف منها حبيبها، لذا تتوجه إليها طالبة منها أن تتركه لها.
تشبه زغرتا المرأة التي تطلب من أخرى أجمل منها أن تبعد عن حبيبها وتتركه لها. وإهدن جولين القادرة على أن تخطف أي رجل كان. زغرتا التي لا يعود في يدها حيلة، مع اقتراب التشارين، سوى أن تطلب من السماء أن تمطر قليلاً. كامرأة حزينة تعرف أنّها الملجأ الأخير لأنه لا ملجأ غيرها، ذلك الحزن الجميل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها