الإثنين 2016/10/24

آخر تحديث: 15:36 (بيروت)

شادي زيتونة: المازة مستقبل المطبخ اللبناني

الإثنين 2016/10/24
شادي زيتونة: المازة مستقبل المطبخ اللبناني
نعيش في بلد الخلط بين الأنواع
increase حجم الخط decrease
في هذه السلسلة من الشهادات، تحاول "المدن" الإضاءة على سِير بعض الطباخين اللبنانيين، ومعرفة آرائهم في أنماط الطعام المستهلكة في البيوت والمطاعم اللبنانية.

نبدأ السلسلة مع شهادة الشيف شادي زيتونة، وهو شخصية تلفزيونية معروفة بأسلوبها المرح والمميز في إعداد الطعام، كما بخبرتها الطويلة في إدارة الفنادق والمطاعم في لبنان.



إيطاليا

1
سافرت من لبنان إلى ترييستي في ايطاليا، في العام 1987، من أجل دراسة الهندسة. كنت مضطراً إلى العمل في أحد المطاعم، كي أؤمّن مصدراً للعيش وأقساط الجامعة. لم آكل في أيامي الأولى في إيطاليا سوى طعام إيطالي تقليدي، ما أدخلني المستشفى في أسبوعي الأول. كان الشعور بالامتلاء من السباغيتي أو الباستا صعباً، فلا يمكن دائماً أن تشبع من نكهة أو طعم لا تعرفه.


علاقتي بالطعام كانت معدومة. وعندما يسألني أحدهم عن رأيي كنت أخجل ولا أعرف بماذا أجيب. الدخول في مجال إدارة المطبخ ولاحقاً إدارة الفنادق لم يكن خياراً وارداً، ولم يصبح كذلك إلا بعدما تخليت عن أحلام الهندسة، وقررت تغيير اختصاصي.

2
بدأت القصة عندما استأجرت غرفة في أحد المباني القريبة من عملي. كنت خلال نزولي على الدرج ألتقي دائماً بامرأة ثلاثينية جميلة ألقي عليها التحية، وهي ترد بالمثل. لم أكن أعرف الإيطالية جيداً، لكني فهمت أن ابنها يتعلم الفندقية في إحدى المدارس الداخلية. سألتها إن كانت قادرة على دفع الأقساط، فأخبرتني أن المدرسة مجانية وهو "يأكل وينام ببلاش".

رأيت أن المدرسة الداخلية ستكون حلاً عبقرياً سيخلصني من هموم العمل في المطعم وتحمل مسؤوليات لم أكن معتاداً عليها. طبعاً هو تفكير مراهق يريد حل المشاكل بأقصر الطرق، من دون التفكير في عواقب خياراته.

3
قُسّمت الصفوف في المدرسة بين صفوف عملية نقوم بإعداد الطعام فيها، وأخرى نظرية نتذوق فيها ما يطبخه غيرنا. صار الأساتذة يهتمون بي أكثر، كأنهم يقولون للآخرين إن عليهم أن يكونوا مثلي. شعرت للمرة الأولى أنني بارع بما أقوم به، وأنني الأجنبي الوحيد الذي استطاع التفوق على أبناء البلد بما يفترض أن يتميّزوا به عني.

بعد عامي الأول في إيطاليا صار لي مهنة أعرَّف بها. أحببت الجو وقررت الاستمرار. كانت المدرسة مثالية لي كبداية في هذا المجال، فهي معروفة في المنطقة وذات صيت ممتاز أمّن لي وظائف جيدة في فنادق ومطاعم المدينة. ساعدني هذا لاحقاً في الحصول على مبلغ من المال أستطيع من خلاله استكمال تعليمي الجامعي.

طبعاً لم أكمل في الهندسة، بل قررت التخصص في إدارة الفنادق Hotel Management والعمل ليلاً وفي نهاية الأسبوع. في العام 1990 صدر قرار يسمح للأجانب بالعمل بشكل قانوني في البلاد. ما فتح الطريق أمامي وأراحني من عقبات عديدة واجهتني.

4
تختلف مطابخ الأقاليم الإيطالية كما تختلف اللهجات بين هذه الأقاليم. على سبيل المثال، تعدّ سوس بولونيز في ترييستي بطريقة مختلفة كلياً عن طريقة إعدادها في سردينيا أو سيسيلي. يشبه هذا اختلاف اللكنة أو اللهجة بين هذه المناطق التي تلفظ الكلمة الواحدة أو حتى الحرف أحياناً بشكل مختلف.

عملت في 46 مطعماً وفندقاً خلال 13 عاماً، التي قضيتها في إيطاليا. كنت أحاول توسيع خبرتي وتنوعيها قدر الإمكان. بدأت في إقليم ترييستي المحاذي للبحر الأدرياتيكي في الشمال القريب من يوغسلافيا (سلوفينيا اليوم)، الذي يتميز بمطبخ قريب من المطبخ اليوغسلافي. بعدها بدأت بالإنتقال جنوباً نحو أقاليم إيطاليا الأخرى، وتخلل هذا الإنتقال زيارات إلى بلدان ومطابخ أوروبية أضافت كثيراً إلى تجربتي "العالمية".

لكن هذا الإنتقال لا يزيدك معرفة بأكلات جديدة، بقدر ما يسمح لك بالتقاط أساليب عمل مختلفة. على سبيل المثال، كل شيف يتعامل مع الباستا بطريقة خاصة أو ينظف السمكة بأسلوب مختلف يجعله يُخرج الفيليه بطريقة مميزة عن غيره. ليس من الضروري أن أقتبس طريقة عمله نفسها، بل يمكنني أن أضيف إليها أساليبي الشخصية والمكونات التي أراها مناسبة.


لبنان

1
بعد غياب طويل، انتقلت إلى لبنان بمهمة عمل في فندق إنتركونتينانتل فينيسيا الذي افتتح في حينها. كانت بيروت مطبوعة في رأسي بصور الحرب، ولم أكن أتوقع هذا المستوى المتقدم من ناحية الإدارة الفندقية والخدمات. اكتسبت في السنوات الـ5 التي قضيتها في فينيسيا ما يساوي أزمنتي الإيطالية كلها. هناك منهج عمل في الفندق، أنتج ثقافة مطعمية وفندقية رافقت جيلاً كاملاً من الموظفين، الذين تركوا الفندق لاحقاً ليفتتحوا أمكنتهم الخاصة في المدينة.

2
في لبنان اليوم هناك نسبة كبيرة تذهب إلى المطاعم اعتماداً على الدعاية فقط، وليس اعتماداً على ذوقها الشخصي. ليست الدعاية صوراً وإعلانات، بل تنتقل عبر الألسنة. لا يذهب الجميع إلى المطاعم بسبب إعجابهم بطعامه، ودائماً ما تجد من يذهب من أجل المكان فقط وتبعاً لترند معين في زمن معين.

لا تقتصر صناعة الطعام على النوعية، فهناك مراحل عديدة تبدأ من هوية المطعم وعنوانه وشكله الخارجي والديكور وشكل الصحون وخدمة الموظفين. في حال أضعت مرحلة واحدة ستفشل العملية كلها.

أنظر الى لوائح المأكولات اليوم. يمكن أن تجد الفيليه قرب الحمص بطحينة مع بطاطا معدة على الطريقة الأميركية، أو حتى أطعمة ونكهات لم يخطر لك يوما أنها ستتلاءم مع بعضها. كيف ينجح هذا المزج؟ التسويق يؤدي دوراً في غاية الأهمية وكيفية بيع المنتج والصورة التي يقدم بها. عندما دخلت إلى عالم Sales & Marketing لاحقاً فهمت الطريقة التي أستطيع فيها صناعة صورة لمنتجي الخاص أقنع بها الآخر، حتى لو لم أكن أنا مقتنعاً بها.

3
لا يوجد في لبنان مطبخ واحد يمكننا القول إنه المطبخ اللبناني. الأكل يتطور ويتبدل، خصوصاً مع ازدياد مهرجانات الطعام والمنافسات التي تشهدها القرى بين بعضها. كل قرية لديها أسلوب خاص في صناعة الطعام. فمثلاً الكبة النية تختلف بين كبة زغرتاوية وكبة جنوبية أو كبة بقاعية، وأحياناً تبدو إضافة نوع واحد من البهارات أو إضافة النعنع مثلاً عوضاً عن المردكوش تغير كل شيء.

لا أتكلم عن الطبخ بقدر ما أتحدث عن المازة، التي تتطور في لبنان بشكل كبير. في السابق كنا نقول إن هناك 25 نوع مازة. أما اليوم فالعدد وصل إلى أكثر من 200 نوع، وكلها ترتكز على وصفات لبنانية مع بعض الإضافات.

المثير أن الطبخ اللبناني يتحول تدريجاً في المطاعم إلى مازة. ورق عريش أو الفوارغ والكبة بالصينية أو مثلاً العدس بحامض والطاجن والبرغل بالبندورة، كلها تتحول من طبق رئيسي إلى مازة تزيّن الطاولة. طبعاً، هذا التحول جديد، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي استطعنا بفضلها رؤية مأكولات لبنانية أكثر في المطاعم.

4
نحن بلد الفيوجن (الخلط). في بيروت، كنت ترى عشرات المطاعم الإيطالية، وربما عدداً أقل من المطاعم المرتكزة على المطبخ اللبناني الإثني فقط. هناك لبنانيون يعرفون المطبخ الإيطالي أكثر من الإيطاليين أنفسهم. لذا، لا يمكن الاستهانة بثقافة الطعام الموجودة هنا.

مؤخراً بدأ المطبخ الإثني يتراجع أمام المطعم متعدد المطابخ. صار المطبخ العالمي جزءاً من ثقافتنا اليومية. فتجد من يأكل اليوم سوشي، يأكل في اليوم الثاني بيتزا والثالث فيلاديلفيا. الخيارات ازدادت والأكل اللبناني أصبح خياراً من بين هذه الخيارات.

ازدياد عدد المطاعم في لبنان زاد التصنيفات، وأجبر كثيرين على توسيع لوائح طعامهم لتضم أصنافاً غير مرتبطة ببعضها.

صرت تجد في المطعم الواحد سوشي والأكل الصيني والإيطالي والشاورما. هذا لا يعني أن المطبخ اللبناني سيختفي أمام هذا التنوع، ولا يعني أن اللبنانيين لا يحبون وطنهم. ربما لسنا متعصبين لطعامنا، كما الإيطاليين، الذين لا يزالون أقل تقبلاً للأكل الغريب.

أعتقد أن هذا دليل وعي وانفتاح، وليس ضياعاً للهوية. ربما الياباني أفضل مني في إعداد نوع طعام معين، لكنني بالتأكيد أفضل منه في التنوع الذي أحمله.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها