الأربعاء 2015/05/27

آخر تحديث: 13:51 (بيروت)

مقاهي طرابلس القديمة.. هي أيضاً طالها "التغيير"

الأربعاء 2015/05/27
increase حجم الخط decrease
على بساطتها، وإتسامها بالطابع الشعبي-الشرقي، لا تزال مقاهي طرابلس القديمة قبلةً لمحبيها. لم تغرِ المقاهي المستحدثة في عمق المدينة، زبائن "مقهى الشاي" و"مقهى موسى"، و"التل العليا". لم تحثهم "ديكورات" الألوان الفاقعة، على مغادرة قاعات تعبق بذكرياتهم وفرحهم عندما يتذكرون "نهفاتهم". إذ يعود تاريخ المقاهي في الوسط التاريخي لطرابلس-ساحة التل، إلى نحو 90 عاماً. 


مقهى الشاي
يرتدي أبو أندريه قبعته الكحلية الفرنسية الصنع، وينطلق من مقر الحزب الشيوعي إلى "مقهى الشاي" في ساحة النجمة. يلاقي رفاقه بعد آدائهم صلاة الفجر في المسجد القريب. يقول أحدهم "لا تحلو صبحيات المقهى من دونه. يكاد يكون اليساري الوحيد بيننا". يجلس على الطاولة الأخيرة لجهة اليمين، حيث يترك له صاحب المقهى عدداً من الصحف المحلية. ينطق الرجل بتحليلات سياسية، فـ"هو سليط اللسان وواسع الخبرة"، وفق ما يصفه أحدهم. ويروي "لا يأبه ابو اندريه لأي شيء، يعرّف عن نفسه بأنه ملحد من دون خوف. لكن جرأته أحدثت بعض المشاكل في المقهى". إلا أن صدور قرار منع الغوص في الشؤون السياسية، لم يعف رواد المقهى من المناكفات. وفق أصحاب المقهى الأخوين شعبان، "يتشاجر الحاضرون بسبب خسارة أحدهم في لعبة طاولة الزهر، أو غش يحصل خلال اللعب بورق الشدة".

لا تتغير وجوه الحاضرين في المقهى. بحسب الأخوين شعبان "الناس هم أنفسهم، لكن عددهم يقل تدريجياً، نظراً لكون معظمهم كباراً في السن. والموت حق". يسترجعان معاً ذكرى صديقهما أبو محمد الحكواتي. يقولان "كان طريفاً جداً، وكثير الضحك. وجوده كان يضفي نكهة مميزة على المقهى، لاسيما عندما يبدأ بسرد قصصه العاطفية مع نساء الحي". لكنّ المقهى الذي افتتح في العام 1970، يلفّه اليوم جوٌّ من الملل، تضاعفه حدة الألوان الداكنة على جدرانه. كل من الحاضرين "يسرح" مع قرقعة نرجيلته والمقهى على حاله، لا يتبدل.

هنا يشغل الرواد كراسيهم من الرابعة فجراً حتى الثامنة مساءاً. يقول أحدهم "لو أنّ أصحاب المقهى لا ينادون علينا، لبقينا جالسين على عتبته واصلين الليل بالنهار". يجد كبار السن في المقهى راحتهم. فمعظمهم لا يعملون، ولا عائلات تحضنهم، وبالتالي لا سبيل ليمر نهار طويل سوى بارتياد مقهى إعتادوه منذ شبابهم. يخرج معظمهم لتناول الغداء، ويعودون مسرعين. وكأن المدينة ستغدو موحشة بعيداً من المقهى.

ما من نوادل هنا. الأخوان شعبان يقومان بكل شيء، يعاونهما الرواد معتبرين أنفسهم "من عظام الرقبة"، وفق أحدهم. يُمنع في المكان تدخين "المعسل"، وتقتصر النراجيل على ما يعرف بـ"الأصفهاني-التركي" و"التنباك". الشاي والقهوة والزهورات بمثابة "الطبق الرئيسي"، بالإضافة إلى بعض المشروبات الغازية. لا تتجاوز كلفة تمضية يوم كامل في المقهى الـ3 ألاف ليرة لبنانية. يباع فنجان القهوة مثلاً بـ500 ليرة فقط. يبرر الأخوان شعبان ذلك بالقول "الله بارك بالفقير".


التل العليا
أول المقاهي في طرابلس وأشهرها مقهى "التل العليا". يعد من أبرز أماكن المدينة، وقد أسس في العام 1820، ليكون بمثابة ملتقى اجتماعي لأهلها.

في الشكل، لا يزال المقهى محافظاً على حاله. تحيط به أشجار الليمون وأزهار الورد الشامي، وفي وسطه بركة مياه، وعلى أطرافه تنتشر الطاولات والكراسي البلاستيكية الملونة. أضيفت إليه "ألعاب ملاهٍ" للصغار في أقصى اليمين، وتحول الكشك الخشبي المسقوف بالقرميد الأحمر، الذي ضم حلقات نقاش سياسة وثقافية في ما مضى، إلى مصلّى. كما خسر "التل العليا" أهم ميزاته، مع توقف تقديم العروض السينمائية في الهواء الطلق. يقول أحد الرواد: "في فترة من الفترات عُدّ المقهى منافساً لصالات السينما. شاهدنا أفلاماً مصرية لفريد الأطرش وأسمهان وغيرهما، وسط الباحة ليلاً. في بداية الأمر عُرضت الأفلام صامتة قبل أن تتطور تدريجياً، ليتجمهر الناس أمامها ساعات طويلة".

لم يبق "التل العليا" بمنأى عن التغيرات الحاصلة في المدينة. المقهى الأشهر، تبدلت وظيفته بشكل ملحوظ. وفق نبيل كبارة، أحد الرواد الدائمين فإن "عبارة مقهى لم تكن تنطبق على التل العليا. هذا المكان كان بمثابة محطة ثقافية-سياسية، يتشكل فيها الوعي السياسي والمطلبي الحقوقي لجميع طلاب طرابلس ومثقفيها في بداية الستينات، من خلال الندوات والمحاضرات والنقاشات المفتوحة التي كان يشهدها". ويضيف: "قديماً، كنا نهم هاربين من كلياتنا في الجامعة ونصعد درج التل الطويل ركضاً بإتجاه المقهى، نسرع للبدء بتحليل أحداث اليوم الفائت والقرارات المتوجب علينا إتخاذها، وكأن عقارب أحداث الكون متوقفة على خياراتنا".

يروي مدير المقهى محمود عابدين المعروف بأبي سعد بعضاً من تاريخه. يقول "قام والدي سعدالله عابدين في العام 1939 بإدارة المقهى، ولكنه ليس ملكاً لنا كما هو شائع. هو وقف لعائلة المجذوب يعود ريعه لمسجد التل الملاصق. كنت أرتاده صغيراً، أخدم العلماء والمثقفين الذين كانوا يتحلقون حول بعضهم بشكل دائري، يتبادلون وجهات النظر بأصوات مرتفعة أقرب إلى الصراخ. جمع المكان النخب الطرابلسية حول أفكار اجتماعية وأدبية ودينية وإقتصادية وسياسية. لكن مع بدء الحرب الأهلية، توقف المقهى عن العمل. بعد حين عدنا إلى تشغيله، لكن كل شيء كان قد تغير". ويشير إلى أن "رواد المقهى حالياً ينقسمون إلى نوعين. منهم الرواد القدامى، من موظفين متقاعدين وعمال. ومنهم الطلاب الحاليون والشبان متواضعو الحال، الذين ليس بمقدورهم ارتياد المقاهي الأخرى. معظم هؤلاء ينكفئون خلف هواتفهم الخلوية".

يختصر أحمد، أكبر العمال في المقهى، جمالية المكان في "تقارب جميع الناس من بعضهم البعض". يقول وهو يملأ رأس النرجيلة بالتنباك: "معظم رواد المقهى يعرفون بعضهم، ولا يشعر أحد بالغربة بيننا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها