الجمعة 2015/10/30

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

الحراك على إيقاع السلطة

الجمعة 2015/10/30
الحراك على إيقاع السلطة
ما حققه الحراك في الخروج إلى الشارع لا يمكن تعزيزه إلا بمواجهة أشد من "رقصة تانغو" (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

بعد أن كانت أزمة النفايات المتراكمة والمهددة لسلامة الناس هي شرارة إنطلاق التحركات الإحتجاجية في وجه سلطة فاسدة غير قادرة على إدارة أي ملف لضمان حلول عملية له، وبدلاً من أن تتقد هذه الشرارة لتصبح ناراً في وجه الإدارة الحاكمة وفسادها، أصبحت تتأجج وتخمد وفقاً لإيقاع فرضته السلطة السياسية على الحراك. ولم تعد التحديات التي تواجهه تتمثل بتهديدات السلطة ومؤسساتها وأجهزتها وتوابعها من ميلشيات وعصابات الشوارع فحسب، بل بات يواجه أيضاً تحديات فرضها على نفسه. تحديات تتكشف يوماً بعد يوم، فبعد أن خرج الناس إلى الشارع في تظاهرات عديدة للاعتراض على فساد السلطة السياسية برزت مجموعات الحراك المتنوعة لتؤطر حشود الناس وعفويتهم وتعمل على بلورة شكل تنسيقي يعيد النظر في الحراك وأساليبه وأهدافه وطرائق المواجهة. هذا الشكل التنسيقي وُلد هشّاً لكثرة ما يواجه من تحديات نابعة من المجموعات نفسها، وإختلاف رؤيتها وزاوية النظر للأزمات المتعددة.

في ظل هشاشة التنسيق، لا بل في ظل إنفراطه بعد أن أعلنت بعض المجموعات إنسحابها، من المتوقع أن يعاني الحراك أضعاف ما عاناه في الأسابيع الماضية من إنكماش الشارع وتراجع الناس عن المشاركة بالكثافة التي شهدتها تظاهرتا 22 و29 آب. فالحراك راهن وخسر. راهن على عفوية الناس وتوهم أن الشارع سيلبّي طموحاته الجماهيرية على الدوام. وظل الحراك يرفض تقديم النقد على التبجيل، وأراد الإنتشاء بزهوة عابرة لا يمكن أن تدوم من دون متابعة نقدية لأساليب الإحتجاج ووحدة الهدف وإمكانيات إستقطاب المتضررين بأعداد تدعم فكرة الإعتراض والمحاسبة في ملف النفايات. إن "ثوار" اليسار أخذوا الحراك باتجاهات غير مجدية، اذ أرادوا فتح ملفات إضافية (وهي ملفات محقة) على هامش المطلب الأساس وهو حل أزمة النفايات ومحاسبة المسؤولين عن تقصيرهم. تبعثرت الجهود وباتت المنافسة بين المجموعات تأخذ شكل التهكم والمزايدة في الوقت الذي كان من الممكن الإتفاق على سقف مطلبي، أو التدرّج في طرح الملفات.

وحدها مجموعات الحراك خارج العاصمة كانت قادرة على مواكبة المواجهة مع السلطة. بينما مجموعات الحراك في بيروت كانت، ومن دون دراية منها، تُراقص السلطة على إيقاع تم إختياره سلفاً. ففي الوقت الذي يحشد فيه الحراك من أجل مطلب النفايات تقوم السلطة بممارسة عنفها عبر الإعتقالات والإعتداءات، وهو عنف متوقع لكنه شكّل مفاجأةً للحراك، فتحوّل مطلب حل أزمة النفايات إلى مطلب حريات مؤقت حتى تتجاوز المجموعات صدمتها غير المبررة. يرتد الحراك مع كل هجوم للسلطة ويهجم مع كل إرتداد بسيط للسلطة لدرجة أنك تخال الحراك والسلطة يُعدّان أنفسهما لرقصة تانغو. وعلى الرغم من ذلك لن نناقش بعض أساليب الإعتراض التي نفّرت العديد من الناس وخلخلت الثقة بمجموعات الحراك. فبعد أن حدث كل هذا الإنكماش للشارع وتحوّل الحراك إلى حركات إحتجاجية مختلفة لم تتنبه المجموعات إلى كل هذه الإشكاليات مجتمعةً، من مكر السلطة إلى تحولات الحراك نفسه. فبات الحراك يقتصر على إعتراض رمزي لا يوازي حجم الأزمة الفعلية فأصبح مقتصراً على يافطات عريضة يمشي تحتها أفراد المجموعات، وعلى شارات للمعصم يلتزم بها أعضاء المجموعة وبعض المؤيدين.

راقصة التانغو المتمرسة في الكرّ والفرّ تسجّل نقاطاً إضافيةً لها كل يوم. تتنصل السلطة من المسؤوليات وتحملها للحراك وتشكل رأياً عاماً متهكماً على الحراك وأساليبه. تتوحد السلطة بمكوناتها الآذارية في وجه الحراك وتحمّله مسؤولية تعطيل الخطط. تشيطن الحراك وتتهمه وتعتدي عليه، والمجموعات تستنفذ جهودها في التخبط في ما بينها إما بالإتهامات المتبادلة أو بحملات المنافسة غير المجدية بفتح ملفات إضافية تُطيّر الاجماع الذي كان معقوداً حول ملف النفايات. بدا الحراك خلال الفترة الأخيرة واهناً فاقداً لزمام المبادرة يتبع إيقاع السلطة السياسية ويفتقد لأساليب مبتكرة في تعويم قضيته المحقة. بدا الحراك متعباً أمام الناس، أمام المتضررين. أما السلطة، والتي تتحمل مسؤولية كل هذا كونها الطرف الأقوى والحاضر بعتاده، فبدت مرتاحة على خلاف ما كانت عليه في أيام الحراك الأولى، حيث إرتبكت وإستنفرت كل الجهود لضرب هذا الحراك المقلق.

إذا إستطاعت السلطة أن تفرض المواجهة على الناس جراء الفساد والهدر وإنتهاك الحقوق، وإذا إستطاعت أن تصوّر للعالم أنها لا تتحمل المسؤولية في أي ملف معيشي يطالهم، لا يمكن لها، ولا يمكن للحراك أن يقبل، أن تفرض عليه أيضاً شكل المواجهة وحدودها وأساليبها وإيقاعها. على مجموعات الحراك أن تخرج من دائرة الرقص هذه وأن تختار لها شكلاً آخراً للتعبير عن إحتجاجها يأخذ في الإعتبار التحديات التي تفرضها السلطة والإشكاليات الناجمة عن تحوّل الحراك نفسه. كان من الممكن أن تعي المجموعات أن ديمومة الإحتجاج وإمكانية إستقطاب الحراك لفئات المتضررين ليس أمراً مضموناً. كان على المجموعات أن لا تخضع لإيقاع رتيب، إيقاع يُمهل ويُهمل، يُمهل السلطة وقتاً لتعد هجوماً إضافياً ويُهمل ملف النفايات بغية فتح ملفات إضافية. ما حققه الحراك في الخروج إلى الشارع وكسر حلقة الصمت لا يمكن تعزيزه إلا بمواجهة أشد من "رقصة تانغو".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها