الجمعة 2014/11/07

آخر تحديث: 16:09 (بيروت)

اللبنانيون في فرنسا: "مجتمعات" داخل المجتمع

الجمعة 2014/11/07
اللبنانيون في فرنسا: "مجتمعات" داخل المجتمع
أرشيف الاغتراب اللبناني من مجموعة الدكتور جهاد بنوت
increase حجم الخط decrease
يصعب تأطير الجالية اللبنانية في فرنسا نظراً لتعدّد الحالات الظاهرة داخل هذا المجتمع، ولتشعّب الصور التي ترتبط بواقع اللبناني الوافد أو الموجود أصلاً هنا. وليس من البديهي اختصار لبنانيي فرنسا بـ"جالية" كما بقية الجاليات العربية ولا يمكن قياس ذلك بحجم وتأثير اللبنانيين فحسب، بل يمكن أن نتعدى الحالة/ المكان للحديث عن النتائج التي تترتب على هجرة اللبنانيين إلى فرنسا من تغيرات تطال علاقة الفرد مع ذاته ومجتمعه.

الحال أنّ القسم الأكبر من الوافدين اللبنانيين إلى فرنسا يقصدونها للدراسة، وتساهم العلاقات المميزة بين البلدين في تسهيل معاملات سفر الطلاب عبر الـCampus France du Liban التابع للسفارة الفرنسية في بيروت. يُجمع اللبنانيون هنا على أنّ تعامل المجتمع الفرنسي معهم يختلف عن تعامله مع الطلاب الآخرين، ولاسيما الوافدين من دول عربية أخرى. وهذا ما يرجعونه إلى أنّ نظرة الفرنسيين لدول المشرق العربي تختلف عن نظرتهم للمغرب العربي، الذي تتحدر منه غالبية الوافدين العرب إلى فرنسا. لدى سؤالي عدداً من الفرنسيين عن الخصوصية التي يولونها للبناني كانت الردود متفاوتة. فيرى البعض أن "اللبنانيين محترمون جداً ويفرضون احترامنا لهم". ويعتبر البعض الآخر أنّ "عوامل ثقافية ودينية وتاريخية تجعل من الطالب اللبناني حلقة ضعيفة غير قادرة على التجاوب مع الروتين الفرنسي الممل".

محمد، طالب ماجيستر في الإقتصاد والإدارة في "نيس"، يرى في المجتمع الفرنسي بيئة أمنت له حماية ليعترف بما كان لا يجرؤ حتى على التفكير به في لبنان. "هنا أصبحت ملحداً واعترفت بذلك لأول مرة، وهنا كانت تجربتي الجنسية الأولى كمثلي جنسياً"، يقول محمد وهو يعرف تماماً بأنّ المجتمع الذي جاء منه لا يمكنه تقبّل أفكاره. وعمّا اذا كان يفكر بالعودة إلى لبنان، يضيف: "يمكنني العودة في حال تقبلني هذا المجتمع وتعامل معي كإنسان سوي تحميه القوانين، كما في فرنسا".

مما لا شك فيه أنّ التجربة الفرنسية غيّرت، أو أقله تركت بصمات في حياة الطالب القادم من فضاء مختلف تماماً عما يعايشه اليوم في الجامعة، المستشفى، المطعم، الإدارات والشارع. يتحدّث حسين عن هذه التجربة، وهو طالب دكتوراه في كلية الطب في "ليموج"، ببعديها الآني والمستقبلي ويقول "إنّ عودتي إلى لبنان يكتنفها الغموض". وهو يتساءل عن وجود الإمكانيات في لبنان التي يمكن أن تستفيد من الطاقات التي أثبتت جدارتها في الخارج من دون العودة إلى هيكلية نمطية تُحطّم الطالب وتجعله أسير شهادته، فتفرض عليه الهجرة مجدداً. "لم يعد بديهياً أن تجلس أنت وعائلتك في العتمة من دون كهرباء ومياه، وهذه أشياء حياتية لا ننتبه اليها هنا"، يضيف متهكماً. يشاطره في ذلك طارق، وهو طالب سنة ثالثة في الهندسة، إذ يتفقان على أنّ لبنان ليس عبارة عن حجارة ومياه وأشجار. في لبنان أناس لا يمكن تعويضهم: أهل وأصدقاء وأشخاص ارتبطنا بهم عاطفياً.

"لا أفكّر في العودة إلى لبنان إلا من أجل أهلي ومن أجل ملء مركز مهم في هذه الجامعة أو تلك"، وفق نانسي التي تحدّثت عن التعب النفسي الذي رافق دراستها العليا في الرياضيات، خاصة أنها كانت تجد نفسها وحيدة رغم تعدد صداقاتها مع الفرنسيين. "البروتوكول يحكم علاقاتنا بالفرنسيين، تغيب العاطفة ويحضر العقل والمصالح البينية".

بعيداً من الطلاب، لا يمكن إغفال اللبنانيين الذين غادروا لبنان مع اندلاع الحرب الأهلية ليستقروا ويبنوا عائلات في فرنسا، ويطبعوا هويتهم بها، ويحملوا ثقافتها ويبتعدوا أكثر فأكثر عن لبنان. خليل، وهو رئيس قسم التوليد والأمراض النسائية في مستشفى مدينة "غيريه" (Gueret)، غادر لبنان في فترة الحرب واستطاع تجاوز امتحانات الدخول إلى كلية الطب في "تولوز" وأكمل اختصاصه لاحقا وتزوج من فرنسية وانجبا ثلاثة اولاد. يحب الدكتور خليل دائما زيارة لبنان وهو يحافظ حتى اليوم على عاداته في صناعة المربيات البلدية وتحضير الأطباق اللبنانية ويصر على قراءة العربية بين حين وآخر. يعيش اليوم مع أولاده من دون زوجته التي غادرت بعد اتفاق الطرفين على انهاء العلاقة التي دامت 27 سنة. يستطرد: "أولادي يحبونني ويحبون زيارة لبنان بشكل دوري رغم عدم اتقانهم للعربية، لكنني أحبّذ زياراتهم لعائلتي المحلية".

تتمظهر حيوات لبنانيي فرنسا كصورة خارجة من بيئة مترهلة أصابتها لوثة الحرب وضربها الإنشطار الهوياتي في تجلياته الثقافية والاجتماعية (الطائفية والسياسية والطبقية..). وتغدو لحظة وصولهم إلى مطار شارل ديغول قفزة في الزمن، قفزة من اللاممكن إلى المتاح والمقبول.


(كاتب لبناني يعيش في فرنسا)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب