الغوطة "درس قراءة"

عمر قدور

الثلاثاء 2018/03/13

مع مستهل القصف الوحشي الأخير على غوطة دمشق انتشرت على صفحات السوريين في فايسبوك صورة لدرس قراءة عن الغوطة؛ الدرس هو من أحد كتب المرحلة الابتدائية، ويعود إلى مستهل حكم حافظ الأسد. وإذا أعدنا قراءة النص المتداول فهو لا يعدو كونه نوعاً من الإنشاء البائس، الإنشاء الذي يمكن إلصاقه بأية بقعة جغرافية ريفية تصلح للزراعة وأحياناً لنزهات أبناء المدينة القريبة. اسم الغوطة يرِد في النص كمكان عام بلا أي تحديد، وهذا ليس وجه الاختلاف الوحيد مع اليوم حيث ترِدنا أخبار تفصيلية عن بلدات الغوطة، وعن القليل الذي تبقى من بساتينها ببركة تنظيم الأسد نفسه الذي رعى تدمير طبيعتها من قبل، ليُقدِم على تدمير عمرانها وإبادة ناسها الآن.

بالطبع لم يكن الإنشاء العمومي بالغريب عن المناهج الدراسية لحكم الأسد، أسوة بما هو معروف في إعلامه أيضاً. ما يدعو إلى الاستغراب هي الاستعانة بتلك الذاكرة العمومية بعد سبع سنوات من انطلاق الثورة، وكأن قسماً من السوريين لم تتطور معرفته على الأقل بسبب تعرض الجغرافيا السورية يومياً للقصف ولإبادة السكان، وأيضاً لم تتطور هذه المعرفة لتتجاوز زيف تلك النصوص مقارنة بالواقع والتدمير المنهجي السابق أو اللاحق.

قلة المعرفة هذه ليست بعيدة عن تهتك الوطنية السورية، فالغوطة التي في الذاكرة ليست الغوطة التي تتعرض للإبادة اليوم، وفي أحسن حالات ذلك النص المدرسي ليست سوى ذكرى غابرة عفا عليها الزمن. كذلك كان الأمر حين لم يجد متعاطفون مع عفرين سوى الإشارة إلى اشتهارها بأشجار الزيتون، من دون معرفة بأهلها وسكانها وطبيعتها، وفي أغلب الأحيان من دون معرفة لازمة بعموم القضية الكردية. حتى في مناسبات سابقة مماثلة كانت المعرفة موسمية، قبل أن يطويها النسيان، وعندما آلت بعض المدن والبلدات المحررة إلى مصير مأساوي برزت المناداة إلى مساعدتها ضمن مفهوم قبَلي أو عشائري هو مفهوم "الفَزْعَة"، من دون التوقف عند ما جعل ويجعل هذه المدن والمناطق منفصلة ضمن ثورة يُفترض أنها ثورة وطنية عامة.

في كل الأحوال؛ من الواضح اليوم أن الغوطة متروكة لمصيرها أمام برابرة العصر، وإبداء التعاطف معها من سوريين أو غير سوريين لا يملكون سوى ضمائرهم وكلمتهم لن يغيّر في هذا المصير. ما يُشاع عن تسويات أو صفقات لإخراج مقاتلين منها يدلّ على الحقيقة المأساوية، وهي أن المدنيين العزّل هم أكبر المتضررين من هذه الوحشية، وليس لديهم ما يفاوضون عليه.

مصير الغوطة كان في الأصل متوقفاً على تغيرات دراماتيكية خارجية تنقذها، أو على تسوية ما تحفظ حياة أهلها. لكن لم يكن هناك ما يبرر انتظار أحد الاحتمالين، فالفصائل الموجودة في الغوطة لا تحظى برعاية دولية تملك حمايتها، والحديث عن التسوية كان كلما انتعش سرعان ما ينتكس إلى حالة أشد وحشية لتصفية إحدى المناطق الخارجة عن سيطرة حلفاء الأسد. وقد يكون ضرورياً التنويه بأن وحشية ما يُرتكب من إبادة وصف لا ينتمي إلى الإنشاء أو المبالغة، ففي أساس محاصرة وتجويع الأهالي، وتجريد قافلات الإغاثة النادرة جداً من المستلزمات الطبية الضرورية، تكمن الرغبة الصريحة بإبادة أكبر عدد من المدنيين تحديداً.

منذ خمس سنوات كان مشروع حصار الغوطة قد دخل حيز التنفيذ بعد وقف تقدم الفصائل نحو دمشق، وهذا المشروع أُنجز عملياً مع الإبقاء على الفصل بين جبهة حوران والغوطتين، ومن ثم الفصل بين القلمون والغوطة الشرقية. قبل ثلاث سنوات ونصف تمكنت قوات الأسد والميليشيات الشيعية من السيطرة على بلدة المليحة التي كانت خط التماس، وحينها قاوم أبناء المدينة الاقتحام من دون مساندة من القوة الأكبر في الغوطة "جيش الإسلام"، فالأخير كان معنياً بمناطق نفوذه المباشرة، أو بإمارة حربه وتوسيعها ضمن نطاق الغوطة نفسها، أي كان معنياً بالقضاء على فصائل أخرى، وأيضاً بتكميم الأفواه واعتقال ناشطين. ولا غرابة في أن يتمكن تنظيم الأسد من فصل الغوطة أخيراً متقدماً في المنطقة الفاصلة بين "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن"، فالفصيلان تحاربا من قبل ولا تربطهما أدنى صلة مما قد نفترض وجوده لدى من يتشاركون الحصار والاستهداف.

بعبارة أخرى، كانت المعركة الحالية تنتظر تغطية نارية وسياسية من موسكو، ولما حانت اللحظة كان اقتحام الغوطة مسألة وقت بعد اتباع سياسة الأرض المحروقة. العنصر الوحيد الذي كان لجيش الإسلام المراهنة عليه ما هو معروف سابقاً من صلاته بالرياض، إلا أن الأخيرة تنازلت عن هذا الملف لنظام السيسي، وهذا بدوره من المرجح أن يضمر تلهفاً لاقتحام الغوطة لا يقل عن تلهف تنظيم الأسد وحلفائه. ولا يخلو من دلالة انقطاع التواصل بين موسكو والرياض الذي بدأ مكثفاً مع مستهل التدخل العسكري الروسي، وحصر الاهتمام الروسي باستمرار التنسيق مع طهران وأنقرة وتل أبيب.

لكن، كي لا نحيل كل ما يجري إلى تواطؤ الخارج أو تخاذله، ينبغي التأكيد على تناغم الداخل مع أسوأ ما في التدخلات الخارجية، بل يمكن القول بأنه منذ خمس سنوات حتى الآن لم يخض أي فصيل معركة ذات أفق وطني. يمكن القول أيضاً بأن القيادات التي كانت تتمتع بطموح وطني قد تمت تصفيتها أو طردها من الميدان، بينما حوصرت فصائل أخرى بين خيار التصفية أو التبعية المطلقة، وفي الوقت نفسه اتجه بعض الفصائل إلى تعزيز نفوذه الداخلي بمنطق إمارات الحرب، من دون تحسبٍ للحظات الحاسمة التي قد يشهدها الصراع.

هذه اللحظة وليدة ما سبق كله، فعندما سقطت القصير كانت وحيدة، وعندما سقطت يبرود كانت وحيدة، وكذلك كان الأمر مع حصار حلب واقتحامها. كأننا بالأحرى نتحدث عن مدن ومناطق لم يجمعها رابط من قبل سوى استبداد تنظيم الأسد، ولم تفلح الثورة في جمعها ولو مؤقتاً على مشروع عملي لإسقاطه. لقد فشلت محاولات عديدة لإنشاء قيادة عسكرية موحدة، وما يُسمى رئاسة أركان الجيش الحر كانت طوال الوقت بلا مصداقية لأنها تسمية غير فعلية، ولأن أي فصيل يستطيع أن ينسب نفسه للجيش الحر صباحاً ليتنصل من التسمية مساءً، مع معرفة الجميع بأن تسمية "الجيش الحر" في حد ذاتها مجاز لا يدل على تشكيل فعلي منتظم.

لقد كنا نقول نصف الواقع فقط عندما نتحدث عن انقسام السوريين بين مؤيد وثائر، وكان هذا يتكفل بالتغطية على التشرذم في صفوف من يُفترض أن توحدهم الثورة بحكم وعيهم لمصالحهم. للحق كان هناك فشل ذريع في تعميم المسؤولية الوطنية على هذا المقلب، ولم تكن الشعارات الإسلامية أو الطائفية أوفر حظاً في النجاح رغم تأثيراتها السلبية على فرص المشروع الوطني.

يا للبؤس عندما يُستعاد درس قراءة سخيف كأنه ماضٍ زاهٍ، يا للبؤس عندما لا يُستفاد من الدروس الباهظة الدم على امتداد الجغرافيا السورية، يا لبؤسنا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024